أخي الحائر سامي،
سألتني قائلا: "إذا كان الخمر محرم في بعض سور القرآن الكريم لماذا إذن هذا الوصف الإيجابي للخمر في بعض السور الأخرى؟"
الجهل الحقيقي بمعناه العام هو الجهل المطبق الكلي، وذلك لأن الإنسان مهما أوتي من علم لا يستطيع أن يلم بكل الأمور والمعلومات، ولا بد أن تفوته بعضها لهذا السبب أو ذاك، وكل الناس لديهم ما يعلمونه ولديهم ما يجهلونه، وبالتالي فإن الجهل الجزئي ببعض الأمور لا يعتبر جهلا.
لذلك لا أعتقد أن الجهل بمعناه العام هو السبب في حيرتك هذه وعدم فهمك لبعض آيات القرآن الكريم، وإنما هو جهلك ببعض المعلومات الضرورية لمن أراد فهم أو تفسير القرآن الكريم بالشكل الصحيح والسليم. إذ أنه من غير الممكن فهم القرآن الكريم أو تفسيره لمن لم يعرف بعض المعلومات المسبقة الضرورية لتفسير القرآن الكريم، مثل المعرفة بغريب القرآن ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وأحكامه، ومقارنة الآيات والقصص المتكررة ومعرفة البلاغة في تكريرها، ومعرفة أسباب نزول الآيات والسور وترتيبها وترتيب نزولها، وأسباب ترتيبها ووضع آية قبل أخرى، ووجه الارتباط بينها، ومناسبة مجيء سورة بعد أخرى الخ.
أما فيما يتعلق بهذا النقاش (أو المناقشة الخمرية على حد تعبيرك)، فيظهر لي أنك قد نسيت أو أنه قد فاتك أن تحريم الخمر في المجتمع الإسلامي الأول قد تم بشكل تدريجي يتناسب مع بدايات الإيمان عند المسلمين الأوائل والواقع القائم آنذاك، وأن تحريم الخمر قد تم على مرحلتين، مرحلة تحذير ونهي، ومرحلة التحريم القطعي. وأنه ينبغي تفسير الآيات بحسب المرحلة التي نزلت فيها.
أما الآية 219 من سورة البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فقد نزلت في المرحلة الأولى، و"الإثم" في اللغة يعني "الذنب"، ويسمى القمار والخمر إثماً أيضاً. قال ابن عباس: الإثم الكبير: ما ينقص من الدين عند مَن يشربها. والــ: "منافع" في هذه الآية الشريفة هي: "اللذة والثمن". قال الإمام ابن كثير: أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية.
ولمعلوماتك هناك آية أخرى نزلت في المرحلة الأولى من أجل التحذير والنهي عن الخمر، دون ذكره بالاسم هي الآية 43 من سورة النساء والتي نصها: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ...)
أما المرحلة الثانية والنهائية لتحريم الخمر التدريجي في الإسلام فقد نزلت فيها الآيتان 90 و 91 من سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(90) – (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)(91)، والـ "رجس" في اللغة هو: "القَذر والنجاسة والمأثم"، والاجتناب: "الابتعاد".
في المرحلة الأولى قال: "لا تقربوا"، وفي المرحلة الثانية قال: "اجتنبوا"، ودلالتهما واحدة، وهي: تجنَّبوا ولا تقربوا كل ما يخص الخمر وتعاطيه..
أما عن الوصف الايجابي للخمر والوارد في الآية 15 من سورة محمد: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) فقد ورد في وصف الجنة، أنهار من ماء غير منتن (وهو غير ماء الأرض الذي ينتن)، وأنهار من حليب في غاية البياض والحلاوة (وهو غير الحليب الأرضي الذي يخرج من ضروع الماشية)، وأنهار من خمر الجنة الحسن اللون والطعم والرائحة والتأثير والخالي أيضا من الكحول (وهي غير الخمر الأرضية الكريهة الرائحة والمشبوهة المنشأ)، وكذلك الأمر بالنسبة لكل الآيات الأخرى المتعلقة بوصف الجنة وشرابها الطهور، ورحيقها المختوم،
والجنة كما تعلم عالم سماوي آخر غير عالمنا، وليس فيها من أرضنا ولا من كوننا شيء، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وما لم يخطر على قلب بشر، وإنما يضرب الله الأمثال للناس من أجل أن يفهموا ويستوعبوا هذه الأمور السماوية الغريبة عنهم، من أجل أن تذهب حيرتهم، أذهب الله حيرتك، وأبقاك في خير.
تحيتي واحترامي
منذر أبو هواش
المفضلات