على هامش التحية للمخيم .. مشاكلة نصية للمعاناة الفلسطينية, قراءة نقدية
الكاتبة
أمل فؤاد عبيد
يسكننا المخيم وإن لم نسكنه ..
لقد اخترت ثلاثة نصوص تتجاوب إحساساتها أو أطيافها بين سكن المخيم وسكينته .. وبين أثيرية الإحساس بمستحيل المنفى والعذاب والتهجير والقتل .. لقد جعلت من خاطرة العاشق للمخيم إياد عاطف حياتله افتتاحية مشروعة للغوص في سكنات المخيم وصدى التعبيرات المختلفة التي سأتحسس نتوءاتها وتفاعيلها من خلال القراءة المباشرة لأطياف كتابة كل من إياد عاطف حياتلة والكاتبة مروة دياب .. ورغم الفارق بين الإثنين في العمر .. إلا ان هذا التوريث جاء معنويا .. على أفتراض ان فلسطين في مبتدأ الكلمة وعنوان صراعها يبدأ من حيث التهجير ومن ثم كان المخيم يتمحور التاريخ النفسي وشكل المعاناة التي بدأ معها الفلسطيني .. ومن هنا سوف ندخل عالم التحاور عبر آلية سينمائية وهي أن التقط الكادرات التشخيصية التي اتوسم ان اسجلها من خلال جسد هذين النصين لكل من الكاتبين على أن يكون اشتغالي على هذه النصوص لتسجيل ما بينها من توازي والتحام و تناص معنوي / حسي .. على أن استخرج من خلال هذه الكتابة بعض الفوارق في مستويات الإدراك والوعي ومذاق التاريخ هنا وهناك .. وأيضا نسجل لصور المخيم المبعثرة في ذاكرة الإنسان الفلسطيني بكل ما تحمله من ألم او نشوة كما سجله الشاعر إياد حيث نبدأ من حيث يقدم لنا كادر خارجي ونستطيع ان نقول هذا على اعتبار ما يتناوله نصه من لقطة خارجية إلا انها لا تنفصل في ذات اللحظة عن محتوى الشعور بالمخيم حيث يقول في خاطرته المعنونة بـ ( للمخيم نكهة أخرى ) :
للمخيم
نكهةٌ أخرى
للأزقّة الملتوية الضيّقة التي تذهب بعيدا باتجاه ما تبّقى من الوطن
رائحةٌ أخرى
لسقوف الزينكو التي تتّكئ بحنُوٍ غير مسبوقٍ على بعضها البعض
طعمٌ آخر
لينتقل بنا من خلال حركة التعبير المحايثة و المراقصة لمضمون الشعور بالمخيم وليس لصورة المخيم فقط .. فهو يتغنى بذاكرة بقدر ما تحمل من ألم وصدمة .. تحمل أيضا نوعا من الشعور بالألفة والتعاون والجمال والتآخي بين الجميع في مخيم قسم لهم ان يتعايشوا فيه ويعايشوه بنبضهم .. يقول الكاتب أيضا في ذات الخاطرة:
للختايرة الموغلين في القدم
المبعثرين على عتبات البيوت
حكايةٌ أخرى
للعجايز البلسميّات الوجوه
المدفّئات الطوابين ببسماتهن
مواويل أخرى
للوجوه التي تعيد رسم تجاعيدها تضاريساً
للبيادر والحواكير وعيون الماء
سحرٌ آخر
نجد هنا ما لهذا الكادر الخارجي على بساطته إلا انه ينقل الصورة بأمانة شديدة ويهتم بتفاصيلها جل اهتمام .. شاملا بهذا مفردات هذا العالم بما فيه من شخوص .. ثم ينتقل بنا الى مستوى آخر من الوعي إلى تصوير كيف اصبح هذا المخيم يحمل نبضهم ويحمل ذاكرتهم أو هو أصبح جزء من ذاكرتهم وتاريخهم على ما فيه من مرار وقسوة .. يقول الكاتب أيضا :
للأيدي الخشنة التي ما انفكّت تكدح نهاراً
وتهدهد أحلام الصغار ليلاً
لمسةٌ أخرى
للصبّايا المتدافعات على حنفيّات المياه
عطورٌ أخرى
للشّباب الذين يحاولون أن يُخفوا نظراتهم المسترقة إلى العيون الخجلات
أحلامٌ أخرى
للأطفال الذين يكبرون عنوة قبل الأوان شقاوةٌ أخرى
ثم ينتقل بنا إلى محاولة استدراج حقيقة أكثر حضورا وهي أن المخيم ما هو إلا واقع يستنبت من خلاله المقاتلين .. الذي إذا ما خرجوا من المخيم عادوا على الأكتاف كناية عن الشهادة .. يقول في نهاية القصيدة :
للذين غادروا المخيّم مشياً
وعادوا على الأكتاف ..
عنوانٌ واحد
وهدفٌ واحد
إسمه
فلسطين
اما في قصيدته الثانية المسماة بـ " إلى المخيم أينما وجد " يحتالنا الكاتب ليسرقنا بلا استئذان ويدخلنا من حيث الكادر الخارجي إلى حيث القسمات والتضاريس تعلو وتعلو .. إذ أن هنا في هذه القصيدة وإن لم تختلف عن سابقتها لأنها لها مذاق المنتصر لذاكرته على حضور الألم .. فالشاعر هنا لا يستجدي منطقة الحسرة او التحسر .. بقدر ما تثيره الذكرى من سعادة ونشوة .. وبلاغة قدر من التصوف الروحي والمعنوي إذ أن المخيم يرتسم كعلامة نصر مؤجل على جبين من سكنه حتى بات بعد السكن يسكن الكاتب وكل من عشق المخيم .. إنه بقدر ماكان علامة استلاب وتدمير معنوي بقدر ما خلق له علامة انتصار تحققت بحضور هذا العالم وبما يحمله من شموخ وعزة .. إنه اصبح جبين يلتمع بذاته ..
يقول الكاتب معلنا نوعا من الاقتحام لعالم هذا المخيم وتعتبر افتتاحية القصيدة وكأنها رفع ستار عن مشهد .. هي تمهيد لما سوف يغوص بنا من خلاله الشاعر :
لِمُخيّمٍ في صدرهِ تتوافدُ الطّلقاتْ
في ظهرِهِ تتوالدُ الطّعناتْ
هذي القصائدُ والقُبلْ
هذي الأناشيدُ التي تعدو
خيولاً نحو ساحات الأملْ
.
لِمُخيّمٍ حُرٍ بطلْ
أسرجتُ أخيلتي
وشحذتُ قافيتي
لقد قرر أن يسرج أخيلته وأن يشحذ قافيته .. ليس فقط لأن يقيم قصيدة .. إنما ليقيم عالما من عوالم الذكرى التي حضرته ومن ثم يأخذنا إلى عالمه هذا بهذه الضرورة الافتتاحية التي تمهد كما قلت تمهيدا معنويا ولربما لتحقيق حضور من نوع آخر .. ثم يكتمل بنا الغوص معه إلى حيث تأخذ أخيلته .. وتقرره قافيته .. فيقول :
هذا المخيّمُ ضحكتي
حرّيتي
وفضاءُ أغنيتي
ورائحةُ الذينَ أحبّهمْ
ذهبوا ....
وظلّ القلبُ مشدوداً إلى خطواتهمْ
وحلَ الأزقّةِ والنّدى
والرّوحُ مدّت جُنحها وَهَمَتْ على قَسَماتهمْ
لَثمتْ تسابيحَ الهُدى
ما بين الضحك والأغاني ورائحة الذين ذهبوا .. تقتسم الشاعر صور مركبة تأسرنا ونصدقها . . ليس لأنها صادقة فقط .. ولكن لأن عادة الفرحة تأتي دوما مع الضحكة والنغم والرفيق .. لذا هي مواقف إنسانية يتذكرها الشاعر أو هي تفرض حضورها فرضا في سياق عملية التذكر . لنشعر وكأن الكاتب انتقل بنا من كادر عاك إلى كادر في غاية الخصوصية .. هذا الانتقال انتقال منطقي يتبع الافتتاحية .. حيث أوجد الشاعر مبرره لحضور هذا التعلق وهذا الوفاء للمخيم .. ومن ثم يعرج بنا الكاتب / الشاعر ليكمل بنا المسير او لنقل نكمل معه تحسس تضاريس ذلك المخيم الذي يتناص مع اي مخيم اينما وجد.. وكأن الشاعر تقديرا منه للمخيم أن قدر أي مخيم في أي مكان .. يقول الكاتب :
الله يا ليلَ المخيّمِ كمْ جميلْ
قمرٌ لكلّ زُقاقْ
عرسٌ ولا أحلى
وقصائدٌ يختالُ في ترديدها العشّاقْ
وحكايةٌ تُتلى
وعجائزٌ ينسابُ من كلماتها الترياقْ
ومواسمٌ حُبلى
وعرائسٌ ترنو للونِ عيونها الأعماقْ
فرحانةً جذلى
وطفولةٌ تشتاقُ خفّة روحها الآفاقْ
وبنادقٌ وعِناقْ
والقلبُ كمْ صلّى
لِمخيّمٍ خلّى
لِحجارةٍ أحداقْ
نرى هنا كم من التفاصيل التي حصرها الشاعر في سياق وصف المخيم .. ولكن هذا لم يقف به عند حد الوصف فقط .. لمجرد الوصف إنما لم تحاول الكلمات اغتيال المعنى او البعد الوطني أو الغاية من توظيف المخيم كصورة توفيقية بين الصراع والحياة .. جميلة هي حياة المخيم ولكنها فرضت فرضا .. إنما الأجمل ان اصبح هذا الفرض .. حياة مليئة بالأسرار والجمال والحياة ذاتها .. فالمخيم لم يكن مخيما للسكن بقدر ما كان تربة أو هو مزيج بين طفولة تشتاق حفة روحها الآفاق وبين البنادق .. هو قوة قاهرة بأن جعل للحجارة أحداق .. فرغم ما يصوره الشاعر من جمال الحياة في المخيم او هو يسشتعرها هكذا .. بضميره نراه لا يتخلى عن هويته الأصلية .. حتى أن هذا لم يمنعه أيضا بأن ينتهي بالقصيدة حيث التغني بليل المخيم فيقول :
.
.
.
الله يا ليلَ المخيّم كمْ جميل
كمْ يا حبيبَ الرّوحِ قهركَ مستحيلْ
نلاحظ هنا أن النقاط التي تفصل بين هذه الابيات وسابقتها ما هي إلا صدى الضمير او الإحساس فرغم الفزع من كل شيء .. ورغم ذلك التضاد اللوني الذي قاربه الشاعر بعدسته القريبة جدا .. بأن ارتفع بالكادر من حيث الجزئي البسيط لأن يختم اللقطة بليل المخيم كم هو جميل .. ولا يقف عند هذا فقط .. إنما يختتم شعورك واحساسه الحقيقي بأن المخيم من الصعب قهره .. ذلك خلاصة إحساسه ولكن يبقى السؤال .. اين وجه صعوبة قهر المخيم .. واقعا .. أم هذا في داخل الشاعر نفسه .. بأن المخيم وإن كان في وقت ما علامة هزيمة .. فإنه أصبح بفاعلية الفلسطيني وقدرته بأن اصبح علامة انتصار ..[/indent][/indent][/align]
http://arabswata.org/forums/showthread.php?t=18010
المفضلات