البتراء.. شرعية منزَّهة عن "الانتخاب"!

جواد البشيتي

بحسب بعض المعايير الحضارية ـ العلمية، تُعَدُّ (أي يمكن ويجب أن تُعَد) البتراء، أو المدينة الصخرية الوردية، عجيبة من عجائب الدنيا.. من عجائب الحضارة، التي لا أرى من معنى لـ "تسبيعها"، أي جعلها سَبْعاً. و"العجيبة"، هنا، إنَّما هي شيء صنعه الإنسان، يدعو إلى العجب، أي نستطرفه لغرابته، أو نَسْتَعْظمه. وهذا الاستطراف، أو الاستعظام، إنَّما هو أثر يَتْرُكه هذا الشيء في نفوس وعقول البشر من أبناء الحضارات اللاحقة الذين يكتشفون في العجيبة الحضارية (القديمة) ما يجعلهم يستعظمون أن يصنعها بشر من أبناء الحضارات السابقة. ولا شكَّ في أنَّ الأمم الأكثر تطوُّرا من الوجهة الحضارية والثقافية والعلمية هي التي ترى في عجائب الدنيا، كمثل الهرم خوفو والبتراء، من أوجه "الإعجاز الحضاري" ما تَعْجَز عن رؤيته الأمم المتخلِّفة حضاريا، فالسائح الأوروبي الذي يزور المدينة الوردية يراها بـ "عين مُثَقَّفة"، فيرى فيها، بالتالي، ما نَعْجَز عن رؤيته عندما نزورها.

لقد صوَّتنا مع نحو 100 مليون مُصوِّت من أجناس وأمم الأرض كافة في أوَّل "انتخابات" من نوعها في عصرنا الذي فيه من الخواص والسمات ما يُبرِّر تسميته "عصر العولمة". وقد كنتُ أتمنى أن يشبه هذا التصويت التصويت لـ "برامج حزبية"، أي أن يَنْتَخِب الناخب هذا "المرشَّح"، وهو البتراء، وهو على عِلْمٍ بما يجعله في هذه الأهمية الحضارية.. فـ "ما هي البتراء؟"، و"في ما تكمن أهميتها الحضارية؟"، كانا السؤالين اللذين ينبغي لإجابتهما العلمية الموضوعية أن تُقيم في عقول المصوِّتين قبل ومن أجل أن يصوِّتوا، فنحن انْتَخَبْنا البتراء وكأننا ننتخب البرلمان، أي في الطريقة الانتخابية ذاتها.

البتراء، العظيمة في حدِّ ذاتها، والتي يشرح لنا التاريخ أوجه عظمتها الحضارية، ليست في حاجة إلى "الشرعية الانتخابية"، فثمَّة أشياء تملك من الشرعية الحضارية والتاريخية والعلمية ما يجعلها منزَّهة عن "الشرعية الانتخابية"، فشعار "يعيش.. ويسقط" الذي يصحُّ في السياسة، والذي تشتد حاجتنا إليه في سعينا إلى إصلاح أوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لا يصح في أمور تشبه حقائقها الحقائق العلمية، فهل لكم، مثلا، أن تقترحوا تصويتاً شعبيا ـ عالميا على "النسبية الخاصة" لآينشتاين حتى تقرِّروا استنادا إلى نتائجه صواب أو خطأ تلك النظرية التي فيها ما يدعو إلى العجب أكثر كثيرا من عجائب الدنيا السبع كلها.. القديمة والجديدة؟!

"العجيبة" التي رأيْتُها هي البحث عن "شرعية انتخابية" لأشياء ينبغي لنا تنزيهها عن تلك الشرعية؛ لأنَّها تستمدُّ شرعيتها من مَصْدَر يشبه المَصْدَر الذي منه تَسْتَمِد الحقائق العلمية شرعيتها.. و"تنزيه" حياتنا السياسية عن الشرعية الانتخابية.

حتى "القانون الانتخابي"، الذي بموجبه أجْري التصويت، كان فيه من "الروح التجارية" أكثر كثيرا ممَّا كان فيه من "الروح الديمقراطية"، فالمُتَّجِرون بسلعة "عجائب الدنيا السبع" كانوا هم "الرابح الأكبر (ماليا)". وكانت تجارتهم يخالطها كثير من "السياسة". و"الوسطاء" بين هؤلاء "التُجَّار الدوليين الكبار" و"جماهير الناخبين الدوليين" ربحوا (ماليا) أيضا إذ اخترعوا "حق شراء الأصوات"، فتصويتكَ الأوَّل مجَّاني، وينبغي لكَ بموجب "قانونه" أن تختار من "القائمة" سَبْعا من العجائب المرشَّحة. ولكَ الحق بعد ذلك في أن تشتري ما شئت من الأصوات لتدلي بها لمصلحة عجيبة بعينها. أمَّا "أدوات الاقتراع"، كمثل "الإنترنت" و"الموبايل"، فليست في متناوَل أيدي غالبية البشر، أو غالبية من يحق لهم الاقتراع.

على مقربة من "المدينة الوردية" يقع جبل هارون، الذي يضم قبر النبي هارون، و"الينابيع السبعة" التي تفجَّرت إذ ضرب موسى بعصاه الصخر. وأخشى ما أخشاه أن يُدْرَج هذا الموقع في قائمة المرشَّحين الجُدُد لـ "الانتخابات المقبلة".

بقي أن نقول إنَّ البتراء قيمة حضارية عظيمة.. كانت كذلك قبل "التصويت"، وستبقى كذلك بعده؛ إنَّها تعطي الشرعية لـ "الانتخابات"، ولا تستمدها منها. و"الحقائق" التاريخية والعلمية، أو ما يشبهها، لا يمكن أبدا وزنها بـ "الميزان الانتخابي"، فـ "الحقيقة"، و"الحقيقة العظمى" على وجه الخصوص، لا تُوْلَد إلا بوصفها "شَرَّاً"؛ لأنَّها تَهْدِم ما ابتناه البشر من أوثانٍ فكرية، وتَخْرُج عمَّا، وعلى ما، تواضعوا وأجمعوا عليه من أفكار ومفاهيم وحقائق؛ وللتذكير إنْ نفعت الذكرى نُذَكِّر بعبارة "ولكنَّها تدور!".