قصة قصيرة
في اليوم الثامن من الأسبوع
بقلم : نهاد عبد الستار رشيد
كان حي العدل في بغداد يغط في ظلام دامس بعد ان اطفأ ساكنوه الأنوار ، واحكموا غلق الأبواب والنوافذ ، فخيم على الحي سكون القبور ، واخذ الضجر ونفاد الصبر ينهشان قلب ام عمر نهشا ، وراحت تحاول ان تكشف ما يخبئه هذا الظلام من اقدار ، وما قد يسفر عنه الغد من احداث . التفتت الى زوجها وهي تهز رأسها الأبيض :
يجب ان نغادر العراق غدا .
واين نذهب ؟
في الأرض متسع للعيش .
ولكن " عمر " الآن في الصف الرابع كلية ، وقد اتفقنا على زواجه حال تخرجه بعد بضعة اشهر .
ليس امامنا سوى الهجرة . سلامة ابني اهم من الكلية . هل تذكر كم عانيت من حالات الأسقاط ؟ لم تنجح ولادة عمر الا بعد عملية ربط الرحم .
على الرغم من كل ما بذلته من جهود لم تستطع اخفاء القلق الذي كان ينهشها اخفاء تاما .
راعها الأمر حين بدأت تصل الى اسماعها اصوات اطلاقات نارية في الجوار . نظرت الى زوجها وقالت له والعبرات تخنقها :
عادت فرق الموت من جديد !
شرعت ركبتاها ترتجفان ، وصوت دقات قلبها يفوق صوت اية جلبة اخرى .
صاح صوت من الخارج :
اخرج يا عمر والا اقتحمنا عليكم البيت .
كان عمر قد انهى توا صلاة العشاء . تقدم نحو الباب ليفتحها ، بيد ان امه تغلبت على ذلك الرعب الذي جمدها في مكانها فمنعته ، واندفعت نحو الباب ، وقد استولى عليها الفزع وقلب كيانها رأسا على عقب . فتحت الباب وفرائصها ترتعد ارتعادا شديدا ، واذا بحشد من فرق الموت يتجمعون امام الدار ، فسألتهم بشيء من اللطف ، وهي تستجوبهم بعينيها اللتين يبدو فيهما من الحزن اكثر مما في كلماتها .
ماذا تريدون من ولدي ؟ !
ضربها احدهم على رأسها وصرخ في وجهها :
نريد عمر . اين هو ؟
خرج ابو عمر مسحوقا بشعوره بعجزه عن انقاذ ولده ، وقال لهم متوسلا :
خذوني بدله . فهو لم يتزوج بعد . ارجوكم خذوني واتركوه سالما .
وهنا قالت الأم ، وقد اغرورقت عيناها بالدموع ، وكان يبدو في نبرات صوتها حزن يقطع نياط القلوب :
خذوني مكان ابني واتركوه بامان .
تقدم احدهم ، وقال بصوت مرتفع :
اقتحموا الدار !
بعد لحظات خرج عمر مكبلا بالأغلال ، وحاولت الأم منعهم من اقتياده ، وتعلقت بذراع احدهم ، فطرحها ارضا . لحقهم الأب فاردوه قتيلا .
استجمعت الأم قواها ، ولحقتهم ، فاوقفها احدهم وقال لها هازئا :
هل تريدين ابنك ؟
نعم . اتركوه وخذوني مكانه .
استلميه غدا من مستشفى الطب العدلي .
وتعالت ضحكاته وهو يهرول نحو سيارة وزارة الداخلية .
تابعت ام عمر بنظراتها الضعيفة السيارة التي تحمل ولدها وهي تبتعد حتى اختفت عن الأنظار . كانت يداها الضعيفتان المرتجفتان تمتدان نحو ولدها بحركة تنم عن الضراعة والتذلل . لعج الحزن فؤادها وامست وقيذة الجوانح . بدا على وجهها الذابل علامات الأحتضار وامارات التدهور السريع ، وباتت اقرب الى الموت منها الى الحياة ... امرأة تعاني سكرات الموت .
شرعت تولول ، والبكاء المختنق يبدو من خلال كلماتها ، وقد فقدت رشدها ، وراحت تنظر من حولها بعينين كأعين المجانين .
المفضلات