- تفضلي الأستاذ في انتظارك.
- شكرا جزيلا.
لملمت أوراقي سريعا، وحملت حقيبتي، وذهبت إلى باب قريب إلى يسار السكرتاريا. نقلت أوراقي بصعوية من اليمين إلى اليسار فتلخبطت وكادت تسقط الحقيبة مني وأنا أقرع الباب.
- تفضلي.
جاءني صوت من الداخل. كان الصوت رخيما أضفى الرهبة على لقائي المنتظر.
فتحت الباب ودخلت.
- أهلا وسهلا. وقام الأستاذ ليصافحني، فسقطت بضع وريقات من يدي.
- أهلا بك أستاذ. شكرا جزيلا لمنحك إياي نصف ساعة من وقتك الثمين.
- تفضلي بالجلوس.
انحنيت لأجمع شتات أوراقي بينما جلس هو في مقعده الوثير خلف طاولة تضج بالملفات والأوراق والكتب.
كان رجلا في الخمسين من العمر. يلبس نظارة بإطار عريض تخترق عدستها نظرة حادة قوية، أربكتني.
كانت النظرة مسلطة علي، وربما لثباتها أحسست بهزة في يدي وفي صوتي وأنا اقول:
هل نبدأ أستاذي؟
قال: ماذا تشربين اولا؟
أجبت بلهفة: لا، لا، شكرا. هذا سيضيع دقائقي الثمينة.
وسلمته نسخة في يده من بعض الأشعار الخفيفة.
أمسكت نسخة أخرى من نفس النص في يدي وتراجعت إلى الكرسي وقلت:
أحب أن اقرأه أنا وأسمعك النص بينما تتابعه بعينيك، فقد يكون هذا أسرع.
قال: أرجو أن يكون صوتك حلوا إذن!
قلت وابتسامة عريضة تفرض نفسها علي: أرجو ذلك.
وبدأت بالقراءة. كان صوتي يهتز، ولكن الجرأة واتتني مع ثاني مقطع، وصرت أقرأ بصوت جهوري ثقة، وبالموسيقى التي أحببتها وأردت لشعري أن يقرأ بها.
عند انتهاء النص رفعت رأسي لتلمس ردود الفعل في وجهه.
أنزل نظارته وركزها على أرنبة أنفه، وأشار الي بيده أن أكملي، فقرأت النص التالي والتالي والتالي.
كنت أنظر إليه بين النص والآخر كتلميذ في امتحان يترقب النتيجة، ولكنه ما كان ليقول كلمة، وما كان ليفعل أكثر من تحريك يده أن أكملي.
رفعت رأسي إليه. قلت: ماذا أستاذ؟ قال بهدوء: ما المطلوب مني؟
قلت: رأيك أستاذ. كيف تجده؟ قال باقتضاب: ممتاز.
قلت: هل يحتاج إلى تصليح؟ قال: ربما يحتاج بعض المراجعة.
قلت: أيصلح للنشر؟ قال: نعم
قلت: أتقدمه لي؟ قال وهو يرفع نظارته بيده اليمنى ويضعها على المكتب وابتسامة تغزو وجهه لأول مرة: بكل سرور.
كدت أطير إليه وأقبله. كدت أرقص فرحا.
قال لي: وهل تشربين شيئا الآن؟
قلت: شايا إذا سمحت.
نظرت إيه وهو يرفع السماعة ليطلب الشاي. وجدته أصغر سنا. وجدته أقل حدة وجدية، فالابتسامة كانت هناك في مكان ما في وجهه، وقد أضفت شبابا وحيوية ورقة لا توصف إليه.
*************
كنت قد كتبت هذا اللقاء على قصاصة بخط جيد، ليتمكن من حل رموزه. وحالما انتهى لقاؤنا الفعلي ، وقمت لمصافحته .. سلمته الورقة.
فتحت الصحيفة في اليوم التالي. قرأت نصي بها وقد أختصر قليلا، وقرأت التعليق التالي بعد النص:
هذا لقاء متخيل قد تم بيني وبين إحدى الكاتبات الشابات. وما يؤكد هذا الخيال وجود النظارة على أنفي، وتلك النظرة المربكة التي أضفتها الكاتبة علي.
لا أخفي عليك سيدتي، السطور الأولى خيالية جدا، فأنا لا أنوي لبس النظارة هذه الأيام. كما لا أنوي تبديل وجهي البشوش بآخر حاد النظرات جاد، لكنك اقتربت من الواقعية في آخر اللقاء، فهو حقا وبكل صدق .. بكل سرور!
ركزت ظهري على ظهر الكرسي، وارجعت راسي إلى الخلف وأنا أتنفس الراحة ملء صدري. شعرت بانتعاش هزني، وصرت أتأمل السقف بنظراتي الهائمة. لا أدري كم مضى من الوقت وانا على تلك الحال، لكنني اخيرا ثنيت جذعي إلى الأمام وألقيت نظرة جدية على الصحيفة،
وكان عتوان المقال : سقف الديمقراطية في التلفزيون.
المفضلات