الصلصال
المكان الذي حملت إليه كان فسيحا، الأنوار تملؤه، وينعكس لمعانها على وجه الأربعة الذين أحاطوا بي .. راح أحدهم يحدثني بكلام لم أتبينه، ولم أستطع الرد عليه .. كانت نظراتي مصوبة إلى ذلك النور المنبعث من آلة مرتفعة عند رأسي.. راح ذلك النور يدنو ويقترب إلى أن تمكن مني، ثم عُرج بي إلى أعلى الغرفة... تأملتهم فإذا هم يتلهون كصبية أحاطوا بلعبة يشكلونها من طين أو نحوه .. انسللنا إلى الأجواء الفسيحة، ورحت أرى الخلائق تتحرك في الاتجاهات كلها، ينبعث من بعضها نور، ومن بعضها نار، طفت في الجهات الأربع، كان المشهد عجيبا يغري بالتأمل ...
مناظر شبيهة إلى حد التطابق، وخلق متشابهون كأنهم واحد...
سألت مرافقي الذي كنت أسمع حفيف أجنحته، من دون أن أتمكن من رؤيته كيف لي التفريق بين هذه الخلائق و كلها مشابهة ؟...
أجابني: قيمة كل حي بما ينبعث منه من نور..
صرت الآن أميز بين الأحياء، مناطق من العالم تشع منها أنوار، ومناطق أخرى يلفها الظلام الحالك الذي يظهرها ، وكأنها قطعة من الفحم الحجري..
وسألته عن هذه الأجسام التي تظهر مشتعلة، ويسبقها تطاير شظاياها، حتى تكاد تحرق الكل .. ولكنها تخفت أو تحرق كلما اقترب منها جسم منير..؟
ذاك هو الصراع بين الخير والشر .. بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة ... ازددت رسوخا في هذه المعلومة، ورحت أرى الأجسام النارية على كثرتها، تحترق ويزول أثرها، أمام الأجسام المشعة التي بدت لي قليلة، في هذا العالم السفلي. وكثيرا ما كنت أرى انقضاض النار على النور، كلما خفت نوره أو ضعف وميضها أمام إغراءات مادية، نصبها الجسم الناري، للجسم النوراني ..
طفت في أنحاء المعمورة، ورأيت المحيطات والبحار، كأنها جداول أو سواق صغيرة...
تسبيحات مرافقي لم تنقطع، كان من المسبحين . ولذلك رأيتني أرددها معه باستمرار، إعجابا لما أرى، وبما أ شاهد من مخلوقات، قال لي: إنني أفضلها وأكرمها...
قلت: من غير المعقول أن أكون الأفضل، وهذا الكون العجيب يزخر بالذي رأيت ...
قال : وكل الأجسام المشعة بهذه الأنوار.. هي الأكرم . أما هذه الفحمية، فتشارككم في الأفضلية على سائر المخلوقات الأخرى ..
تمنيت أن تدوم الرحلة، لأنني كنت أستمتع بها استمتاعا، لم يسبق لي أن شعرت بمثله في حياتي ... ولكنه فاجأني بالشروع في الهبوط، والتوجه إلى المكان الذي انطلقنا منه، أعادني، فلم أشعر إلا بالذي يشعر به الظمآن الذي حرم من لذة شربة ماء، وهو في صحراء قاحلة..
غادر من دون أن يمهلني من تقديم واجب الشكر له على هذه الفسحة اللطيفة التي سأذكرها ما حييت ...
وأفقت على قول أحدهم لقد كللت العملية بنجاح، ابتسمت في وجهه وقلت : صدقت، لقد كانت عملية ناجحة ... فحمدا لله ...
وسألت عن المدة التي استغرقها سفري ... وكنت لا أزال متشوقا لعودة ذي الجناحين، فقيل لي: دامت العملية أقل من ساعة ..
لم أحدث أحدا بالذي رأيت .. ولكنني صرت حريصا أن أكون ضمن زمرة الأجسام النورانية، التي يزداد نورها لمعانا وإشراقا، كلما ارتبطت بالآفاق العلوية، وترفعت عن سفاسف وبهرجة الحياة.
علقت بذهني كل المشاهد التي اكتشفتها ولكن الذي كنت أبتسم له كلما ذكرته ، هو ذلك الصلصال المشكل الذي كان يتلهى به الأطباء.. تماما، كما يتعامل الأطفال مع دمية جديدة، هم يدركون أن ليس لهم سيطرة على الجوهر.. التعامل مع الهيكل وأجزائه غير التعامل مع اللب...
وعدت إلى البيت، وطيف ذي الجناحين يرافقني، فأسعد بذكراه..
2001سبتمبر
المفضلات