إخواني الفضلاء
هذه هي تجربتي الأولى مع القصة القصيرة . أعترف أنني مازلت أحبو في هذا الدرب الشاق الطويل ، لذا فقد شرُفت بتوجيهات بعض من الأصدقاء الأعزاء قبل نشرها.
تمنياتي أن تلقى قسطاً من إهتمامكم ومن تعليقاتكم الصائبة .
كما أتمنى أن تنال نقد وتحليل الإخوة المتخصصين في هذا المجال ، عسى أن تكون هذه التحليلات سلاحي في المرات القادمة إن شاء الله .
وللجميع بالغ الشكر والتقدير
======================================
اغتيال البراءة
بقلم : هشام السيد
وقف خالد الذي تجاوز العاشرة بقليل حاملاً على كتفه فأساً كبيراً يزيد في وزنه عن وزن جسده كاملاً ، وراح ينظر بحزنٍ عميق إلى أقرانه من الأطفال وهم يلعبون ويمرحون في شوارع وأزقة القرية ، وبدأت عيناه تلتفتان يميناً ويساراً ... هنا مجموعة من الأطفال يركضون وراء الكرة في براءة شديدة ، وبجوارهم مجموعة أخرى يلعبون الشَدًة ، وهناك مجموعة ثالثة يلعبون المنديل . شرد بذهنه بعيداً ، وتمنى أن يحظى بدقائق معدودة يمارس فيها طفولته المكبوتة أثناء عطلة المدارس الصيفية، أخذ يناجي ربه ببراءة الأطفال : ليه يا ربِ أنا الوحيد في القرية اللي محروم من اللعب زي غيري ؟ يا ربِ هو أنا مش طفل ومن حقي ألعب زيهم ؟؟ خرجت من صدره زفرة حارقة ، سالت دموعه على وجنتيه .
فجأة قطع شروده صوت يناديه : خالد .. يا خالد .. أنت فين يا وله ؟؟ أنت لسة واقف بتتفرج على العيال وسايب شغلك يا ..... ؟؟ فاستجمع خالد قواه وقرر أن يرد على أبيه للمرة الأولى في حياته : يا أبي هو أنا مش من حقي ألعب زي علي وحسين ، هو أن مش طفل زيهم ولي حق الفرجة حتى مش اللعب ؟؟
رد والده بتعجب شديد : حقك ؟؟!!! جك كسر حُقّك .. حق إيه اللي بتطالبني بيه ؟؟ مش لما نلاقي ناكل تبقى تدور على حقوقك ؟؟ ، هتبقى انت والجمعية علينا ، مش كفاية إن احنا عبيد في أرضنا ، نزرع وتيجي الجمعية تاخد زرعنا وتديه للبهوات في المدن ؟؟ حد يصدق إني أورد للجمعية طنين رز بالقوة وبتراب الفلوس ، ولما أحتاج كيلو لعيالي أقف عليه طابور في الجمعية ؟؟!! يا ابني إحنا بنشتغل سخرة عند غيرنا وياريت ياخدوه ويدونا أكل يكفينا ... خالد يا ابني أنت بقيت راجل حط إيدك في إيدي علشان نقدر نكفي السبع بنات وأمهم . روح يا ابني على شغلك الله يهديك ويرحمنا من الجحيم اللي احنا فيه .
بث خالد كل همومه في الفأس ، أخذ يضرب الأرض بشدة ، لم يشعر بمشقة العمل في الحقل تحت وهج الشمس الحارقة ، نسي الجوع والعطش ، أطلق لخياله العنان ؛ فتخرج من الجامعة ، وعمل في المهنة التي طالما حلم بها ، وأصبح صحفياً مشهوراً وكاتباً مبدعاً ؛ بنى لنفسه بيتاً مستقلاً ، وتزوج وأنجب ، وامتلك سيارة خاصة ، دخل البرلمان ، حارب الفساد المستشري ، حصل على محبة الناس وسخط المسئولين ، أصبح بطلاُ قومياً في قريته ، نال احترام من كانوا يوماً لا يرمقونه بنظرة عابرة ، الجميع يتمنون قربه .. إذا فلتكن البداية، ولكن .. كيف ومتى ؟؟
جلس خالد تحت شجرة وارفة الظلال وأخذ يناجي نفسه باحثاً عن وسيلة لانتشال عائلته من هذه الطاحونة التي تنتج ويذهب إنتاجها عنوة لأهل المدن ، بكى قلبه بحرارة ، حبس أنينه بداخله ولم تدمع عينه دمعة واحدة ، فدموع الرجال في القرية من الكبائر التي لا تغتفر.
حمل نفسه وأحلامه الكبيرة وذهب إلى القرية المجاورة باحثاً عمن يقبل بتشغيله بأي مقابل ، ففي جميع الحالات سيكون المقابل أفضل من عائد الأرض الزراعية المنهوب بالقوة وبطريقة السخرة . أجرى اتفاقاً مع المعلم عبد اللطيف البنا للعمل تحت إمرته في أي عمل يوكله إليه .
في صباح اليوم الأول ، أشار له المعلم بيده :
شايف كمية الطوب والأسمنت دي يا خالد ؟؟
رد خالد بحماس شديد ، أيوة شايفها يا معلم .
دي شغلتك ، تطلعها فوق سطح الدور التاني وتروح .
بدأت رحلة العمل بحماس شديد لكي يحظى بإعجاب المعلم عبد اللطيف ، حمل الكمية الأولى على كتفه وصعد الدرج بقوة ، وضع الطوب على سطح المنزل ، لف جسده بسرعة للنزول ، اختل توازنه ، هبط أيضا بنفس قوة الصعود ، ولكن واحسرتاه فقد كان الهبوط في الهواء ومن السطح إلى الأرض مباشرة ، خرجت الدماء من رأسه وأذنيه وتبخرت في الهواء حاملة معها أحلام عائلة بأكملها ، وفي لمح البصر تحولت أحلام العمر إلى كابوس مرعب .
خرج أبوة إلى الشارع وأخذ يصرخ في هستيريا شديدة : ابني ضاع يا أولاد الحلال ، سندي ضاع يا ناس ، الله يجازي اللي كان السبب ، قتلوا ابني ربنا ينتقم منهم .
وما هي إلا لحظات حتى قبض على أبيه ووجهت له تهمة سب وقذف الحكومة.
ولا يزال التحقيق مستمراً ، والسبب عدم العثور على إجابة شافية للسؤال الأزلي :
من المتسبب في اغتيال البراءة ؟؟
هل هو الأب ؟؟ أم هو المعلم عبد اللطيف ؟؟ أم هي ظروف المعيشة التي أجبرته على العمل الشاق في سن الطفولة ؟؟
سؤال يحتاج إلى رأيك المفصل أيها القارئ العزيز .
الرياض في
يوم الأحد 21/1/2007 م الموافق 2/1/1428هـ
المفضلات