|
|
|
|
أطيـــــان الباشبكـــــــــوات
صلاح ابوشنب
تذكر الحقول الخضراء وهو يعبث بمحتويات الصندوق الخشبى القديم المتهالك ، تلك الحقول التى لا نهاية لها ، تذكر معها ماء النهر الجارى الذى وهب الحياة بفضل الله لهذه الارض ، تذكرابويه واخوته ، تذكر اهل قريته والبؤس الذى كان مرتسما على الوجوه
السمراء .. نادرا ما كان يرى على محياها ابتسامه .. حرقة الشمس صبغت الوجوه بصبغة الكد والشقاء فشابهت وجوه تماثيل الجرانيت المنحوته فى الوادى القريب ، ألاف السنين مرت ، نالت منها أظافر الدهر مانالت ، صنعت تجاعيد ورسمت اخاديد كروافد نهر حُسِر ماؤه ، أو كصحراء قـُحِلَ خَضَارُها ، وذهب بَهَاؤُها ونَضَارُها ، وانطفأ بَِريقهُا ولمعَانهُا . تلك كانت وجوه تحكى المأسآةَ بفصولها كلـّها ، دون الحاجه الى حَرَاكِ شَفَاهِهَا .
كانت معيشتهُم فى بيوتٍ تشبه الاكنانَ ، منها تفوحُ روائح الروث المقرص المحترق بوهج شمس النهار .. تتغذى بها التنانير التى مازالت تحتفظ بشكلها العتيق الذى توارثته منذ الآف السنين .. فوق الاسطح تجف عصارتها ، تتشقق أوصالها ، كتشقق كعوب الكادحين العاريه فى حقول أصحاب الأطيان والبساتين الزاهرة . ألهتهم القصور عن سكان الحفر والقبور .
الأرث الحقيقى الضائع هم أصحابه ، ليس لهم سوى الجوع والعرى ثم المغيب تحت الثرى .
ذات يوم وقفت سيارة نقل كبيرة فوق الجسر الترابى . نادى المنادى على شباب بلادى ، هلموا يا أهل الفقر هلموا الى قريشات معدودات فى أيام معلومات ، لدرأ احتياجات عجاف السنوات .. تدافع الناس .. امتلئت السيارة بالقادمين والمارة .. عن القرية البائسه انفصلت ، الى شاطىء الكنال وصلت . فى قيظ كالأتون تلقـّاهُم رَيْبَ المَنـُونْ ، فى العراء تكومت أرتال الأُجراء البؤساء كعيدان فى صحراء جرداء.
بالقرب من كثيب رمل برز مستر عزيز خادم الانجليز برأسه المكورة ، وطباعه المتهورة ، بروز الكـُبرى ذات الرأس المقعرة .. طرقع سوطاً فى الهواء بحركة مُبهرة ، فأحدثت خلخلة وقرقعة ، هاجت الرمال على الوجوه فشكشكت صفحاتها ، ودارت من حولها بصفير أخرج من القمقم زوبعة ، ارهابا لاصحاب الوجوه السمراء الصامته الشمخاء.
راح يتأمل التلال ، وكثبان الرمال مصطفه على شاطىء الكنال ، تروى تاريخ أجيال .. عندها حط الرحال فوق أرض مُقفرة .. طرح على نفسه سؤال : تـُرى هل ترك الارض هناك ينعم بخيراتها بقايا الذين جاؤا من أنقره ؟ ليقع هنا فى براثن قراصنة تلك المستعمرة ؟ .. الى متى سيظل جَسَدُه يـُفْنى بين أطباق الـّرحى .. يَنْبُتُ زرعُ الكِنَانةِ مرويّا بعرق جبينه الأبى ؟
مَرَارٌة تحركتْ اشعلتْ فى صدرهِ نارًا.. أما آن الأوآن كى تتوقف تلك المعصرة ؟
فر النوم من مقلتيه .. جاش الالم بين دفتيه .. برزت عروقه من بين جلد ذراعيه .. تـُرى طَحْنِى مُسْتمِرٌ ..عظامى حَنْظلٌ مرٌ .. عمرى اطول من عمر قاتلى .. فلا نامت أعينُ الجبناءِ! كان الطقسُ حاراً ، والظلامُ حالكاً ، والقومُ نياماً . تسلل مستترا بردآء حُلكتِه .. أضرَم فى الخيامِ النارَ ، نثر خلفه الغبارَ .. فرّ من المعسكر قبل طلوع النهاِر.
توالت تلك الذكريات فى رأسه مسرعة ، يستمع الى ما يردده ابنه البكر فى درسه بصوت مرتفع : "من أهداف الثورة القضاء على الاستعمار ، القضاء على الاقطاع ، والقضاء على الرأسماليه".
فى تلك الاثناء كانت اصابع الأب قد توصلت الى ورقة صفراء باهتة اللون مكتوب فى أعلاها :" كنال كامب .. لابور أوفيس .. شيف لابور ".
الابن : هل فعلت كل ذلك يا أبى ؟
الاب : نعم يا ولدى .
الابن : أمسك الورقه فى اعجاب .. هذه بطولة يا أبى ؟ .. أنت
بطل !
الاب : بل تأدية واجب يا ساهر .
الابن : سوف ارسل هذه الورقه الى الريس .
لم يجاوز الشهر انقضاؤه حتى جاء ساعى البريد ينادى من بعيد : ساهر افندى .. ساهر افندى
اسرع ساهر يجُبُّ الـدَّرَجَ .
ساعى البريد : اريد والدك .. الاستاذ ساهر بشخصه .
ساهر: أنا ساهر بشخصى يا عمو .
ساعى البريد : اريد ساهر الكبير !
ساهر : ليس هناك سواى بهذا الاسم .
ساعى البريد : اصنع لى معروفا يا ولدى واحضر لى شخصاً كبيراً كى اتحدث اليه .
ساهر : والله العظيم أنا ساهر يا عمو ..
ساعى البريد : يبدو أنك تريد خراب بيتى .
أمام هذا الاصرار العنيد أزعن ساهر لطلب ساعى البريد، نادى على والده الذى تسلم المظروف بعد أن قام بالتوقيع بالاستلام نيابة عن ولده فى ظل دهشة البوسطجى الذى راح يضرب كفا بكف ويقول : من ديوان الرئاسة مباشرة الى هذا المفعوص .. سبحان الله .. عشنا وشفنا !
مظروف كبيـر أصفــر اللون عليه شعار ديوان الرئاسة ، بداخله رسالة مزينة بالتوقيع الكبير للرئيس : " ابنى ساهر ، تلقيت رسالتك .. ان أباك بطل حقيقى ، وأنت كذلك بطل المستقبل ، اهديك صورتى ، لا تتردد فى الكتابة الـيّ ان اردت شيئا .. تحياتى اليك والى ابيك البطل .. جمال عبد الناصر". |
|
|
|
|
المفضلات