وجوه إنكار المحرقة النازية
من مقالة للدكتور عزمي بشارة*

في إطار محاولة الصهيونية اعتبار تاريخ اليهود كله تاريخ ملاحقة واضطهاد، وفي محاولتها التعامل معه كله كأنه يقود إليها، جرى التعامل مع المحرقة كأنها موضوع يخص دولة إسرائيل. فتم تأميم ضحايا المحرقة وتحويلهم إما إلى حلقة في تاريخ الصهيونية رغماً عنهم في الطريق لإقامة إسرائيل، أو إلى أداة لابتزاز التأييد للصهيونية وأهدافها عالميا، أو إلى أداة لتبرير الجرائم التي ترتكبها هي بحق الآخرين. وكأن حجم الجريمة يجعلها هي الضحية بامتياز أو وكيل الضحايا الحصري، وبالتالي يصعب اتهامها بارتكاب جرائم لأنها ضحية بحكم التعريف.
وأدى تحويل اليهود بشكل عام إلى ضحية النازية إلى ظاهرتين:
1- شخصنة الموضوع، بحيث بات بإمكان أي إسرائيلي فرد أن يتحدث ويتصرف وكأنه هو الضحية حتى لو كان في إيديولوجيته ونفسيته اقرب إلى المجرمين، أو إلى ألـ «كابو» (اليهود الذين تعاونوا مع النازية في معسكرات الاعتقال) من الضحية، وكأن ولادته لأم يهودية تكفي لتحوله إلى متحدث باسم الضحايا أمام الإنسانية برمتها، بما فيها يهود وغير يهود هم أقرب منه إلى نفسية الضحايا، وأكثر عداء منه للنازية ومشتقاتها. 2- التأميم أو تركيز الحديث باسم الضحايا بيد المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة التي تحتكر الحديث باسم اليهود وباسم تاريخ اليهود بشكل عام، الأمر الذي يترجم إلى دعم مالي وإلى دعم سياسي وغيره.
في الحالة الأولى يكاد يتحول تحدي فهم ما جرى، واستيعاب درس النازية إلى جلسات نقاش بين شباب يهود وألمان وغيرهم، وكأن أولئك يجسدون الضحية وهؤلاء يمثلون الفاعل، في نوع من العلاج النفسي وغسل الضمير والوجدان وإرضاء غرور الآخرين والابتزاز. لا يوجد ما هو أقل أخلاقية من هذه الآلية التي تدفع بالجريمة والضحية عن البالغين، إلى نفوس الشباب، كأنهم يرثون خطيئة الآباء، بدل الاستفادة من التجربة التاريخية في مكافحة العنصرية في المجتمعات كافة. وضحايا العنصرية في ألمانيا وأوروبا المعاصرة ليسوا يهوداً. وفي فلسطين الصهيونية هي الفاعل وليست الضحية.
تمنح جلسات العلاج النفسي هذه بطاقة مجانية لممارسة العنصرية بحرية في إسرائيل وألمانيا، وكأنه لا علاقة بين المحرقة والعنصرية، وكأنها شأن ألماني يهودي خاص، وليست فقط شأناً ألمانياً يهودياً، بل هي شأن بين أي يهودي وأي ألماني حتى لو كان الأول عنصريا والثاني معاديا للعنصرية.
أما الاحتكار الصهيوني غير المبرر لا منطقياً ولا تاريخياً للحديث باسم الضحايا فهو مريح لأوروبا. ويجب كسره. غالبية أهداف الصهيونية والمقابل الذي تطلبه لا يتطلب مراجعة مع النفس لاقتلاع الأسباب والعوامل الحقيقية التي أدت إلى «الهولوكوست» في أوروبا. وبالعكس فمن مصلحة الصهيونية تخفيف شأن كل جريمة أوروبية أخرى لكي لا تمس بوحدانية «الهولوكوست». أما الأهداف الأخرى فلا تقع في أوروبا، وتتطلب تضامنا مع الصهيونية خارج أوروبا في مكان آخر، ومن شأنها أن تقذف بالقضية اليهودية برمتها إلى الشرق الأوسط. وليس هنالك ما يريح ألمانيا الرسمية وغيرها من التودد للصهيونية والعداء للشعب الفلسطيني والعرب وحتى المسلمين كشهادةٍ تبرئ حاملها من المسؤولية عن المحرقة. وفي حين يفترض أن يؤكد هذا السلوك المسؤولية واستمرار النهج، يجعله الترتيب الجديد بين الصهيونية وأوروبا شهادة حسن سلوك تمنحها الصهيونية بعد زيارة تطهِّر يقوم بها مسؤول أوروبي إلى متحف «ياد فاشيم» في القدس، كأنها مخولة بذلك.
يجوز إخضاع المحرقة للبحث العلمي. ووظيفة الأخير في حالة علم التاريخ فضح الأساطير وتفنيدها وتبيان مصادرها ووظيفتها. ولا توجد واقعة تاريخية خارج طائلة البحث العلمي. ولكن طهران ليست صاحبة تقاليد في بحث المحرقة، ولا الموضوع ملح أكاديمياً في إيران. وإنكار المحرقة ورد خطابةً قبل المؤتمر، ولذلك فالمؤتمر ليس بحثاً أكاديمياً بل تظاهرة تسيء للمسلمين والعرب وتفيد النازيين وأوروبا اليمينية والحركة الصهيونية.
وفي أيام الحرب العالمية الثانية عندما راهن بعض العرب وشعوب العالم الثالث على ألمانيا كخصم لفرنسا وبريطانيا الاستعماريتين في الحرب، جرت العادة أن يدعي اليسار المتحالف مع السوفيات انه لا يجوز أن يقف ضحايا العنصرية إلى جانب العنصرية النازية، وكان هذا صحيحا. ولكن حتى هذا المبرر البراغماتي الفاشل للوقوف إلى جانب العنصرية الأوروبية لم يعد قائما. وإنكار «الهولوكوست» لا يضعف القاعدة الأخلاقية التي تبرر وجود إسرائيل كما يعتقد البعض، بل يمنح كلاً من أوروبا اليمينية وإسرائيل عدوا مريحا تسقطان عليه المشكلة برمتها وتجتمعان عليه، ألا وهو المسلمون الأصوليون والعرب والفلسطينيون، وأولئك الذين يود بوش أن يسميهم «الفاشية الإسلامية».
كان رد الفعل العربي الأولي والبسيط اسلم بكثير، فهو لم ينكر وقوع «الهولوكوست» ولكنه رفض تحمل مسؤوليتها، وحملها لأوروبا. انتشر هذا الموقف في الأربعينات والخمسينات وما زال ما تبقى فينا من العادية والطبيعية يردده أحياناً.
*كاتب عربي