يمشي بهدوء وكأنه يخشى الوقوع في حفرة عميقة .. في طقس زمهرير صاقع ، غيومه ممزقة متناثرة بعشوائية ، رياح شمالية باردة تهب بلا كابح لجماحها . صار شديد النحافة و كأن الموت يمتصه يوما بعد يوم ، فأمسى مثل المصاصة ، أو هو سحاحة معبأة بمزيج من البؤس و الألم يتساقط مزيجها قطرة اثر قطرة .. عطس عطسة حسبتها آهة ، عرفتها بسبب العطسات المرتدة التابعة لها ، كانت قوية وهادرة ومفرقعة ، فبدا و كأنه يعطس مع سبق الإصرار والترصد .. واضح انه مصاب بالرشح والزكام . و لكن لماذا خرج من داره الدافئة ؟ بيته صغير وضيق مثل الضريح و أميز ما يميزه هو الدفء في الشتاء ، وفي الصيف يتحول إلى فرن يشوي الأبدان ويغلي الدماء في الشرايين الآدمية .. لقد نصحته بعدم الخروج و الاعتكاف في بيته عدة أيام ريثما يمتص الصدمة و يبرد قلبه المشتعل بالسنة النيران المستعره .. أخذت أقول في نفسي : أيعقل انه كان على موعد معها بعد الذي حصل بينهما ؟ لا. لا أظن ذلك ، الأرجح أنها صدفة نقية مثل عين الديك .. يا لها من صدفة اليمة !
بعدما قابلها في ذلك اليوم و دار بينهما ما دار من حديث حتى تغير لون بشرته ، و أصبح جلده كجلد الأموات ، و كأنه انتزعه عن جثة ميتة و التحف به .. على الرغم أن بشرته سمراء في الأصل ، إلا أنها كانت نضرة قبل لقاءه الأخير بها .. تابع المشي بهدوء حتى وصل بوابة المشفى الكبيرة ، توجه إلى صالة الانتظار ، فإذا بها أمامه بلحمها و شحمها و كأنها القدر القادم فجأة من غامض علم الله ليسحق قلبه بآلة حديدية ضخمة كالدرداس ...
كالدرداس .. ثبت نظراته بها دون أن يدري و بلا إرادة منه ، فبدا كانسان يجني أثر إصابة ظالمة قاهرة حارقة صاعقة مؤلمة مستبدة .. سألها بصوت صادر عن أحبال صوتية مهترئة لحنجرة مهشمة دامية : أما زلت عند رأيك ؟ أجابت بصوت متلقلق : نعم .أنا ، أنا .. انت ، عندما ، كيف ...
قال لها بكبرياء : لكن أنا بطل . تركته وخرجت مسرعة و كأن إعصارا عاتيا قذفها بقوته العمياء الهوجاء إلى الخارج .. أخذت أنفاسه تعلو و تهبط ، لقد وجهت إليه ضربة ساحقة ماحقة قاتلة غادرة ، وأخذت الكرة الأرضية بكاملها تتكلكل على صدره .
عدل من جلسته بعض الشيء فانحسرت أطراف بنطاله القطني ، لتظهر طرف قدمه الاصطناعية الخشبية .. نسيت نفسي وأنا أطيل التحديق بها ، أغدقت عليه ما أكنه له من شفقة ، و هذا ما لا أرغبه ، لا أود أن أظهره بمظهر الضعيف المحتاج لنظرات الإحسان من الآخرين لأنه بطل . و أكاد لا اصدق حقيقة مرة كالعلقم .. فأنا إنسان عادي و لست بطلا،و على الرغم من ذلك تتملكني الشفقة على إنسان بطل .. هو بطل حقيقي بقدم مزيفة خشبية .
جاء دوره ليدخل إلى غرفة الطبيب ، سار ببطء شديد حتى أفل في الغرفة . أخذت أحدق بامرأة تجلس في الجهة المقابلة ، لها وجه شاحب نحبف وناشف .. أخرجت نهدها من عبها و صوبت حلمته نحو الهدف ، أخذ رضيعها يغب منه بنهم و يتشبث به بكلتا يديه تشبثه بحياته ، خشية أن يسرقه منه رضيع آخر .. حولها طفلان ينطان بحيوية ، و يتبادلان لحس قطعة حلوى حمراء ، يأخذ احدهما لحسة و يعطي الآخر كي يأخذ نصيبه بلحسة .
خرج من غرفة الطبيب ، تنهد تنهيدة سوداء محروقة و ممزقة بين شهيقه وزفيره ، ثم قال : لقد عجز الطبيب عن معرفة علتي ، و لا يوجد دواء في المشفى ليعالج ما يخمنه من داء .. شعرت بان الدنيا تحولت إلى تنين ضخم يمد ألسنته المتشعبة كالنيران لينفثها في وجهه ، تابعنا المسير بتؤدة و هو يقذف مصائبه في وجهي ، قال بحرقة : أرأيت ؟ لقد تركتني و هربت ، هي تعلم كيف أكون في المواجهات ، آخر مرة كنت أتخذ ساترا منيعا ، لكن الطائرة اللعينة ألقت قربي بقذيفتها الحمقاء فبترت قدمي .. و حولتني من بطل مقاوم إلى عاجز مقعد . نعم . أنا بنظرها مقعد لا حول لي و لا قوة .. أنا غير آسف على فسخها خطوبتنا ، و لكني غاضب من نظرتها لي .. هذا هو ما يحرق قلبي و يوقذ الجمر بين ضلوعي و يطير عقلي . وصل هو إلى بيته و ذهبت أنا كيفما اتفق إلى حيث لا أعلم أين ستحملني خطاي لا الوي على شيء.
تعرفت هي على شاب آخر وسيم الشكل ، و بهي الطلعة ، قدماه طبيعية .. حملت منه سفاحا و تبين فيما بعد أنه جاسوس .. حاولت الهرب معه إلى إسرائيل عبر الأسلاك الشائكة ، اعتقد حرس الحدود الصهاينة بأنهم مقاومون ، فأطلقوا عليهم وابل من الرصاص و ذهبا في موت أبدي .
زرته بعد عدة أيام ، كان جالس و قدماه ممدودة أمامه ، و اضعا قدمه الخشبية جانبا ، طلبت منه أن يحتذيها كي نذهب للمشي تحت سماء شمسها دافئة .. لكنه رفض ، اتكأ على عصا و تناول كانون صغير ، و ضع به ساقه الخشبية ، كنت انظر بدهشة واستغراب ، صب عليها القليل من الكاز و أشعل بها النار .. انتابه الضحك و ضحكت أنا بدوري ، تناول إبريق الشاي ووضعه على قدمه المشتعلة ، أخذنا نرتشف شايا شهيا و نضحك حتى تعبت قلوبنا ، شعرت بأن حجابي الحاجز سيتوقف عن الحركة . قال بمرح : لقد تخلصت من قدمي الزائفة ، الآن أظهر على حقيقتي أمام الجميع و لا يوجد ما أخفيه عن العيون .. قلت له : كيف ستمشي و قد تحولت قدمك إلى جذوة من الجمر .. فتناول عصا زيتون غليظة و لوح بها قائلا : سأمشي بهذه ، سيراها الجميع ، و قد يأت دورها و أحولها إلى نار و أصنع بها فنجان قهوة عربية ، وهل تفرق إن كانت قدمي المزورة من خشب أو ذهب .. أخذت أحدق برماد قدمه وقد بدأت تذروه الرياح القادمة من الغرب .
تعرف على فتاة جميلة حسناء ، جسمها مثل المانيكان .. كانت تساعد المقاتلين ، فتزوجها . كنت أشاهد حفل الزفاف و اردد في نفسي : الأبطال للأبطال .. مرت عدة أسابيع على زواجه ، انتهى شهر العسل على ما يرام ، و أصبحت عروسه في الأيام الأولى من الحمل .
توغلت إسرائيل في الأراضي الفلسطينية كالعادة .. تناول بندقيته و خرج مسرعا للمشاركة في القتال و هو يردد في نفسه : فقدت قدمي و لن افقد بطولتي ، يجب أن أظل بطلا في عيون الناس.
سمعت بأنه أصيب إصابة بليغة ونقل للمشفى .. شعرت و كأن مطرقة حديدية ضخمة بحجم ناطحة سحاب سقطت علىّ مسرعة من كوكب آخر لتدشدش عظامي و تسحقني .. زرته في المشفى .. فقد إحدى عينيه ، وضع بدلا منها عينا زجاجية لا ترى ، لكنها أجمل من الطبيعية . بعد خروجه من المشفى اكتشف أن بإمكانه القتال بعين واحدة وقدم .. و اخذ يردد : لا شيء يثني البطل عن بطولته .
Magdi_samak@yahoo.comهذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته
المفضلات