مشاهد مؤلمة من "محرقة غزة "
أم تحرم من وداع ابنها الشهيد و أشقاء يجتمعون في ثلاجات الموتى و عائلة بأكملها تحت الركام
غزة – محسن الإفرنجي: تقرير إخباري
لا وقت للوداع ..ولا مكان لبيوت العزاء..و لا متسع في المستشفيات للشهداء و الجرحى ولا وقود لسيارات الإسعاف لنقل ضحايا "المحرقة" غير أنه مكان واحد في نفوس و عقول المواطنين الغزيين للصبر و الصمود و المقاومة.
مشاهد مؤلمة و قاسية أب و طفله الرضيع الوحيد و طفلة و شقيقتها و أم وأبناؤها و عائلات بأكملها في عداد الشهداء أو الجرحى و دمار شامل طال البيوت الآمنة و المؤسسات العامة و المقرات الرسمية و الأمنية و كل ما يمكن ن يصادفه تنفيذا لسياسة "الأرض المحروقة" التي تنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد المواطنين الأبرياء.
ومن أبرز معالم " المحرقة " الإسرائيلية جرائم القتل الجماعي الذي استهدف عائلات بأكملها فسقط الأب وأطفاله و أجهزت الصواريخ على ستة من عائلة عطاالله كما سجل الاحتلال سبقا عسكريا في قتل الأطفال و النساء بعد أن سجل رقما قياسيا في الأول من شهر آذار (مارس) الجاري بقتله 68 مواطنا في يوم واحد وهو العدد الأعلى في قطاع غزة والضفة الغربية منذ احتلالهما عام 1967.
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية فقد بلغ إجمالي ضحايا "محرقة غزة" التي استمرت على مدى خمسة أيام منذ فجر الأربعاء الماضي 122 شهيدا و من بين الشهداء 39 طفلا، وعشرة سيدات، ومسعفين، وعنصر من سلطة الطاقة إلى جانب350 جريحا بينهم عشرات الحالات الخطرة بينهم 92 طفلاً، و42 سيدة.
ما أصعب الوداع..
ما أصعب الوداع و لكن الأصعب هو الحرمان من وداع فلذات الأكباد و الأحبة و هو ما حدث مع والدة الشهيد حسين البطش التي لم تتمكن قسرا من وداعه لأنها كانت محاصرة في منزلها مع أفراد من عائلتها غير قادرين على المغادرة تحت كثافة النيران و الصواريخ التي تطلقها قوات الاحتلال.
أم الشهيد البطش كانت لا تعلم أن ابنها استشهد و اليوم تبكي بحرقة ليس فقط على استشهاده بل تتمنى أن يعود إليها ثانية حتى تقبله و تودعه و تحضنه للمرة الأخيرة.
أما الشابة الصغيرة جاكلين محمد أبو شباك "17" عاما التي بدأت الحياة تبتسم لها فلم تحتمل أن ترى شقيقها إياد "14 عاماً" مضرجا بدمائه بعد إصابته بقذيفة مدفعية إسرائيلية فهرعت لإنقاذه غير آبهة بما يخبيء لها القدر فكان أحد قناصي الاحتلال لها بالمرصاد حيث باغتها برصاصة قاتلة أردتها حتى ارتمت في حضن أخيها و اختلط دمهما الزكي .
كل سيناريو الجريمة يحدث دون أن تدري الأم المكلومة ما أصاب طفليها حيث أبلغوها بأنهما مصابين فقط و فجعها نبأ استشهادهما الذي علمت به أمس ولم تودعهما أيضا.
وكما سقطت جاكلين بجوار شقيقها كان الأب بسام عبيد "45" عاماً على موعد مع الشهادة برفقة ابنه محمود "15 عاما"ً عندما أراد أن يهم بمغادرة المنزل برفقة نجله فدهمته قذيفة مدفعية متجهة صوبهما مباشرة فهرع نجله الآخر خليل لإسعافهما لهما فأصيب بجراح بالغة.
زهرتان تذبلان..!
أطفال ونساء ورجال تحولوا بفعل آلة البطش الإسرائيلية إلى ركام وبقايا أجساد و أحلام ذهبت أدراج الرياح تحت هدير الدبابات.
الشقيقتان سماح زياد عسلية ، 19 عاماً؛ وسلوى، 15 عاماً ارتفعت أجسادهما الطاهرة الغضة عن الأرض تعانقت أرواحهما و تقطعت سماح البنت الأكبر بعد أن أطلقت طائرة استطلاع صاروخاً باتجاه شارع السكة، شرق جباليا، سقط على منزلهم وأدى إلى استشهادهما على الفور.
و لأن بيوت العزاء و الشهداء كانوا "بالجملة " توجهت والدة سماح و سلوى قبيل القصف إلى بيت عزاء شقيقها الشهيد بسام عبيد و نجله لتعود إلى البيت فتجد ما لم تتوقعه في حياتها..زهرتان تذبلان في منزل عائلة عسلية فتسقط الأم مغشيا عليها من هول الصدمة.
وتتوالى الصواريخ كما توالت جرائم القتل و الإبادة جماعيا ا حدث مع أسرة دردونة حينما انفجر صاروخين بجوار أطفال يلعبون في أزقتهم وكانت حالة من الهدوء تسود المنطقة مما أسفر عن استشهاد أربعة أطفال هم محمد نعيم حمودة، 9 أعوام؛ و علي منير دردونة، 8 أعوام؛ و دردونة ديب دردونة، 12 عاماً؛ وعمر حسين دردونة، 14 عاماً.
جثث الأطفال وصلت المستشفى أشلاء مقطعة، بحيث صعب على أهاليهم التعرف عليهم لقسوة المشهد بعد أن تناثرت الأشلاء و أصبحوا جميعا ككومة من اللحم.
خطفوا ابتسامتها!
و في لحظات خاطفة غابت ابتسامة الطفلة البريئة سلسبيل أبو جلهوم ابنة العامين في وقت كانت فيه تلهو في فناء منزلها في جباليا مع إخوتها الصغار حيث طاردتها طائرة استطلاع و أصابتها بصورة مباشرة .
كان المكان أشبه بساحة حرب و لكن بدون سلاح و دون أن تطلق من المنزل صواريخ أو نيران فرائحة الموت تنبعث من أركانه المختلفة و الدماء تغطي الأرض و الأشلاء تطايرت على الشجرة الموجودة داخل ساحة المنزل الصغير.
عاد والد الطفلة سلسبيل إلى المنزل ليجد أطفاله الذي لا يتعدى أكبرهم سبعة أعوام ما بين شهيد و جريح فكان الصمت المطبق أبلغ جواب على هول الفاجعة .
وكما اختطف الاحتلال ابتسامة سلسبيل أتبعها بخطف شريكتها في الطفولة صفاء رائد أبو سيف (11 عاماً) التي ظلت تنزف حتى فاضت روحها إلى بارئها .
كانت صفاء تحاول تخفيف حدة التوتر و الخوف الذي يسطر عليها بسبب شدة القصف و إطلاق النيران من حولهم فلجأت إلى فناء منزلها في منطقة زمو شرق بلدة جباليا للعب فأطلق عليها أحد القناصة رصاصة أصابتها في الصدر فسقطت على الأرض و صرخت طلبا للمساعدة من عائلتها، ولكن لم يتمكن أحد من التقدم نحوها في ظل زخات الرصاص المتجهة صوبها و كأن جنود الاحتلال عثروا على صيد ثمين لهم و حتى تمكنوا من نقلها إلى داخل صالة المنزل كانت صفاء تودع الدنيا بعينين ثاقبتين.
صمتت صفاء و صمت معها جسدها الصغير و توقف قلبها مكتفيا بما منحها الله من سنوات ذاقت خلالها ويلات الاحتلال و مرارة الاجتياحات و التوغلات.
وكانت هنا عائلة...!
هل تصدق أن البناية التي تضم ثلاثة طوابق هي ما نراه الآن؟سأل أحد الجيران شقيقه و عيونهم مفتوحة محدقتان في المشهد غير مصدقين.
فمنزل عائلة عطاالله شرق مدينة غزة لم يتحول فقط إلى كومة من الحجارة و الركام بل إلى حفرة عميقة دفنت تحتها أجساد ست من الشهداء من نفس العائلة لم يتم العثور عليهم بسهولة بسبب شدة الانفجار الذي أحدثه القصف حتى أن طواقم المسعفين و المنقذين عثرت بعد 16 ساعة من القصف على جثتي شهيدين منهم.
تعجز الكلمات عن وصف هول المشهد و الدمار و انتشال الأشلاء قطعة قطعة للعائلة التي تفرق شملها قسرا و تركت ابن أحد الشهداء طفلا لم يتجاوز من عمره العشرين يوما يصارع الحياة أما بان عمهما عمار "15 عاما " فهو في حالة موت سريري.
والشهداء هم: عبد الرحمن محمد على عطا الله، 62 عاماً؛ و زوجته سعاد رجب عطا الله، 60 عاماً؛ وأنجالهم: إبراهيم، 38 عاماً؛ خالد 34 عاماً؛ رجاء 30 عاماً؛ وابتسام 25 عاماً.
و لم تتوقف تفاصيل المأساة عند هذا الحد فالشهيدة المحامية رجاء الهائل كانت تستعد احفل خطوبتها المقرر بعد أيام و لكن القدر عاجلها بزفافها.
غزة بعد " المحرقة" تغيرت عنها قبلها فهي أكثر صمودا و إصرارا على التمسك بحقوقها و ثوابتها الوطنية و أكثر قدرة على فضح جرائم الاحتلال الذي جعل من الأطفال و النساء أهدافا ثابتة له.
المفضلات