قصة قصيرة
العرافة
محمد المهدي السقال
انتبهتْ " مليكة " إلى عودة طائر" الجاوش", لم يُحلِّق بين أركان الغرفة قبل الانسحاب كعادته من غير استئذان ,
حطَّ فوق أعلى رفوف المكتبة , من غير أن يستقر به المقام , يقفز متحركاً في كل الاتجاهات ,
همدتْ تحاول قطع أنفاسها , متمنيةً لو أنه يمكث أطول ,
انتفض , حدق في وجهها كأنه يرغب في السؤال عن شيء ضاع منه , بذلتُ جهدا خارقاً في محاولة التظاهر بالسكون , علَّهُ يطمئن إليَّ , ثم اختفى في رمشة عين , تاركاً خلفه منحنى ظلي ثابتاً جهة اليسار , و صوت رفرفة جناحيه ينحل إلى ما يشبه الهواء البارد في يوم قائظ ,
للريش رائحة يذكرها أنفي من بقايا معاشرة الطيور الحبيسة في الأقفاص , تمتعض حاسة الشم , لكننا نُصرُّ على الاحتفاظ بها سجينة أمام عيوننا , أول مرة سمعت عن شيء اسمه الحرية , كان من خلال فرجتنا الطفولية على دوخة ذلك العصفور الحبيس خلف القضبان ,
بعد خمس سنوات , سيحدثنا معلم العربية عن الرفق بالحيوان , وكأنه كان معنا , سيمثل بالطائر في القفص , كم شعرتُ بالذنب , مات العصفور بعد يومين , رغم اهتمامنا بأكله وشربه ,
قامت " مليكة " في اتجاه موطئ قدميه بين الأسماء المغبرة , " طبقات الشعراء " , ترك عليها أثراً من برازه نقطاً سوداء , مازالت طرية , أدنى محاولة لتخليص " ابن قتيبة " مما أصابه , لن تزيد إلا الطين بلة , ما أسوأ حظَّه , طبقات أخرى بجانبه , كانت أحوج لمثل هذا الخروج النديِّ ,
تركت الكتاب كما تركه الطائر , وعادت لاستئناف كتابة القصة المشؤومة , ما زالت تتأبى على الانتهاء , تعبتْ من معاودة بنائها , لتبدو أكثر واقعية , تقف عند رد فعل الشخصية المحورية , فلا تسعفها العبارات الأقل حدة ,
مضى عليها أسبوع , وهي تفكر في لغة موحية تحتمل رمزيتها أكثر من تأويل , حين يتعلق الأمر بالكتابة عن حكاية من حكايا السلطة في هذه البلاد الغريبة بحكامها , تجد نفسها محاصرة بتخوف لا إرادي من الوقوع في شرك الصياد ,
تتحرج من التصريح كما تتحرج من التلميح , بالرغم من علمها ببلادة حجاب الحاكم , لم تفلح في التخلص من توجس الإيقاع بها , وهي تحيل على لا مبالاة الحاكم المنشغل عن الأمة بما في بطن بعله المصون ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
انتزعها الحاجب من فراشها للمثول بين يديه , في عز الليل , تاركة خلفها زوجاً لم يحرك ساكناً , بل كان يستعجل اصطحابها للرسول ,
بحكم شهرتها كعرَّافة تحققت بعض نبوءاتها , خمَّنتْ سبب الاستقدام , وأصابتْ هذه المرة أيضا , سوف تُسأل عن الراقد في بطن زوجة الحاكم , وسوف تجيب بلا أدنى تردد أن المولود ذكر ,
و إذا لم يكن ذكرا ؟
إنه ذكر يا سيدي .
لكنها قبل الانصراف محملة بأعطية الألف دينار المعهودة , اصطدمت بوجهها في المرآة , رأته كالحاً رغم الأنوار المشعة في القصر , حدثتها نفسها بالعودة إلى الحاكم , لتعلن بين يديه عن رؤية غير الذي صرحت به ,
أرى يا سيدي أنها ستضع أنثى ,
بلعتْ ريقها تتلقَّفُها الأيدي نحو مخرج دهليز يفضي إلى ساحة فسيحة , ومنها إلى البيت عبر ممرَّاتٍ لم تستبن إلى الآن مُنعرجاتها ,
تبًّا لهذه الحكاية اللعينة , ألقتْ " مليكة " بالمسودة في سلَّة المهملات , تطلعت إلى النافذة , هل سيهل الطائر ثانية ؟ تمنت عودته ليبصق في وجهها هذه المرة .
********
محمد المهدي السقال
المغرب
المفضلات