[overline]

لمحة موجزة عن تاريخ الحداثة في الغرب
[/overline]

على الرغم من الاختلاف بين الكثير حول بدايتها الحقيقية وعلى يد من كانت, فإن الغالبية منهم يتـفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي بودلير، وهذا لا يعني أن الحداثة قد ظهرت من فراغ ، فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتـها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازاً طبيعياً من إفرازات الفكر الغربي، والمدنية الغربية التي قطعت صلتها بالدين على ما كان في تلك الصلة من انحراف، وذلك منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين انفصلت المجتمعات الأوربية عن الكنيسة، وثارت على سلطتها الروحية التي كانت بالفعل كابوساً مقيتاً محارباً لكل دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان، وحينها انطلق المجتمع هناك من عقاله بدون ضابط أو مرجعية دينية، وبدأ يحاول أن يبني ثقافته من منطلق علماني بحت فظهرت كثير من الفلسفات والنظريات في شتى مناحي الحياة. وطبيعي ما دام لا قاعدة لهم ينطلقون منها لتصور الكون والحياة والإنسان، ولا ثابت لديهم يكون محوراً لتقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، أن يظهر لديهم كثير من التناقض والتضاد، وأن يهدموا اليوم ما بنوه بالأمس ولا جامع بين هذه الأفكار إلا أنها مادية ملحدة، ترفض أن ترجع لسلطان الكنيسة الذي تحررت من نيره قبل ذلك .
ويعلق الأستاذ محمد راتب الحلاق على هذه الجزئية قائلا " الحداثة مفهوم غربي، أنتجه الغرب للغرب، عندما وضع تاريخه وواقعه موضع تساؤل (ولا أقول موضع اتهام).... فالحداثة، إذن، ليست كما يدعي بعضهم، فعلاً شيطانياً ابتدعه الغرب، ضمن مؤامرة خبيثة، لاستلابنا.. وتدمير هويتنا القومية.. وانتزاعنا من تراثنا الغني وحضارتنا المتميزة..... فالغرب ليس معنياً بتصدير الحداثة الحقيقية بمفهومها وآلياتها إلى أحد، لأن ذلك ضد مصالحه.... أما إن أخفق ما يسمى عندنا بالحداثة، وأنتج كل هذا الركام من الإحباطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية.... فلأننا استوردنا مفهوم الحداثة مع ما استوردناه من منتجات الغرب، كزبائن وليس كمتعلمين، ثم أسأنا، كعادتنا، استخدامه حين لم ننتبه إلى أن هذا المفهوم قد نشأ في مجال ثقافي مختلف، وأنه كان محصلة لجملة من القيم والعلاقات الاجتماعية المغايرة، وللاكتشافات العلمية والجغرافية الجديدة، وللتحولات التي تراكمت في المجالين السياسي والاقتصادي... والتي أدت إلى قيام الرأسمالية والدولة البيروقراطية، وإلى تطلع الدول الأوربية إلى خارج حدودها، ونشوء حركة الاستعمار، التي وجدت من المفكرين من يبررها ويمنحها الغطاء الفكري والثقافي، ويرفعها إلى مستوى الرسالة التي على الأوربيين تأديتها، فالاستعمار.. والإمبريالية.. والعولمة من منتجات الفكر الحداثي الغربي؟!"...‏
وقد بدأ مفهوم الحداثة يتخلق في رحم الفكر الغربي منذ أن تم إحضار الإنسان (الغربي) ليمارس دوره... وحقه في صنع الوجود: وجوده الذاتي كفرد يملك ذاتاً يشعر باستقلالها وخصوصيتها.. ووجود العالم الذي يعيش فيه بإعادة تشكيله ليكون أكثر جمالاً وعدلاً، وأقل قباحة وظلماً (بالنسبة له وحده)... بعد أن كان، هذا الإنسان، يغط في طمأنينة بلهاء، جسده في قبضة الإقطاعي وروحه في قبضة الكاهن.‏
فكان من أول المذاهب الأدبية الفكرية ظهوراً في الغرب: "الكلاسيكية" الذي كان امتداداً لنظرية المحاكاة التي أطلقها أرسطو الأب الروحي للحضارة الغربية، وكما قال إحسان عباس في كتابه "فن الشعر" صفحة 40: "فإن الكلاسيكية تؤمن أن الإنسان محدود في طاقته، وأن التقاليد يمكن أن تكون ذات جوانب حسنة جميلة، فهي تميل دائماً إلى التحفظ واللياقة ومراعاة المقام والخيال الكلاسيكي خيال مركزي، مجند في خدمة الواقع" .

ثم جاءت الرومانسية فكانت ثورة وتمرداً على الكلاسيكية، فقدست الذات والبدائية والسذاجة ورفضت الواقع، ادعت أن الشرائع والتقاليد والعادات هي التي أفسدت المجتمع، ويجب أن يجاهد في تحطيمها، ومع كل هذا الرفض والثورة وعدم وجود البديل لدى هذا المذهب، فشل الرومانسيون في تغيير الواقع، فأوغلوا في الخيال المجنح والتحليق نحو المجهول. يقول أحد رموزهم ويدعى (وايتمان) كما في كتاب (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة143: "لو سرت مع الله في الجنة وزعم أنه جوهريا أعظم مني، فإن ذلك ليؤذيني وسأنسحب بالتأكيد من الجنة". وقد كان من أساطين هذا المذهب في الغرب : بايرون، وشيلي، وكيتس، ووردزورث، وكولريدج، وشيلر . وأخذ هذا المذهب الأدبي الفكري في بلاد العرب: شعراء المهجر، ومدرسة الديوان، وجماعة أبولو، على اختلاف بينهم في مقدار التأثر به.

ثم كان هناك التطور إلى المذهب البرناسي، ثم المدرسة الواقعية التي تطورت إلى الرمزية التي كانت الخطوة الأخيرة قبل الحداثة. وكان من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في الجانب الأدبي على الأقل، الأمريكي إدغار ألن بو، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل: مالارميه، وفاليرى وموباسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان. وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية كما في (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة 190 "ومما يبعث الأسى لموته، هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجماً من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال". وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق . وكان يعتبر عميد الرمزية والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة. وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس في فن الشعر صفحة 64 .

فالبيئة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأوربية هي التي أنتجت مفهوم الحداثة، وهي، من ثم، الإطار المرجعي الدائم له، وهي الذاكرة العميقة التي تفسره وتمنحه شرعيته.... وهذا ما غاب عن معظم الحداثيين العرب (أو ما أرادوا إنكاره وعدم الاعتراف به)... فالحداثة في الغرب لم تكن طفرة، ولم تكن قفزة في الهواء، ولم تكن مولوداً لقيطاً... وإنما كانت تطوراً طبيعياً ومنطقياً لسيرورة الفكر الغربي.. والفلسفة الغربية.. والقيم الغربية.. والدارس للفلسفة الغربية سيكتشف بسهولة مدى ارتباط المدارس السياسية والاقتصادية والفنية والأدبية والنقدية الغربية بتلك الفلسفة، وسيكتشف كيف أن مصطلحات تلك الفلسفة قد رحلت لتستخدم في الخطاب النقدي والأدبي والاقتصادي.......


الحــداثــة في ميــزان الإســلام . د عوض القرني
عن الحداثة وحوار الحضارات . أ . محمد راتب الحلاق