أحيي صاحب الموضوع على طرحه الجريء، وأبشره بأن هذه مرحلة ستنتهي إن شاء الله وسوف يشهد التاريخ عليها بما لها وما عليها.
وأحب أن أنوه بأن مجرد إبداء رأي في نظام معين لا يعني مهاجمة بلد أو دولة. فرأيي مثلا في نظام الكفالة السعودية لا يعني بالضرورة أنني ضد سعودة الوظائف أو سعودة الجيش. ولا يعني أنني ضد نظام الجنسيّة، هذه أمور منفكّة كما يسميها أهل المنطق.
كما أنه لا يعني إعطاء العامل المسلم وغير المسلم حريته في الاختيار والعمل والتنقل من الوظائف أو تغيير مهنته ما دامت إقامته سارية المفعول، لا يعني ذلك أن البلد سوف تسقط في الفقر.
أما أن نقول للعامل: إنك تعاني في الدول الأخرى أكثر من الخليج، فإنه يشبه أن نقول للمرأة التي يضربها زوجها: إنك لو تزوجت أخا زوجك لنتف شعرك. فاصبري على الضرب.
وكذلك لو قلنا له: إذا كنت لا ترضى بالظلم فعد إلى بلدك.
فإنه يشبه أن نقول للزوجة: إذا كنت لا تريدين أن يضربك زوجك فاذهبي إلى بيت أهلك.
ولا يعني أيضا تعديلنا لنظام الكفالة أنه يجب (أو لا يجب) على غير المجند السعودي أن يقاتل في المعركة إذا جاءت. هناك في النظام الإسلامي ما يسمى: واجب الدفاع. هذا واجب على جميع المسلمين في البلد الذي يهاجمه العدو، وهو فرض عين، لا فرق فيه بين سعودي وكويتي ومصري، والسعودية مأرز الإسلام ولا يرضى المسلمون باحتلال بلاد الحرمين، ولو دعوا إلى التطوع للقتال معها ضد عدو أجنبي وفتحت الحدود من قبل الدول والحكومات، فالشعوب لن يقصروا، والشاهد على ذلك قتال المسلمين مع إخوانهم في أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق، ولكن الأنظمة والحكومات هي العائق في الغالب، وليس هؤلاء العمال المساكين الذين طردهم الجوع والفقر من يعوقون دون دفاع المسلمين عن بلاد الحرمين لو احتاجت ذلك. وهناك في نظام البلدان ما يسمى: التجنيد الإجباري، وهو غير مطبق في السعودية والخليج، فالأحرى أن يطبق فيها قبل أن يطالب الآخرون بالقتال، مع إتاحة الفرصة لقتالهم مع البلد إذا تطوعوا. أقول هذا من باب الاستطراد فقط في المسألة التي ذكرها الأخ أعلاه، وليس لأنها مسألة جوهرية في حد ذاتها.
وعليه، فإذا كانت المشكلة والمطلوب هو: مقاتلة الأجانب مع المواطنين إذا جاء الاحتلال. فيمكن أن يعطى الأجنبي حقه في التنقل ويعفى من الكفيل ولا يهدد بالتسفير إذا تنفس أو تشاجر أو أراد أن يقرن بين وظيفتين أو أن يتكسب بدون سرقة ولا اختلاس، بشرط أن يلتزم بالعمل بنظام ليس فيه حد لشيء من حريته الشخصية، ثم يشترط عليه أن يقاتل في وجه المحتلّ إذا جاء
. هاتان مسألتان برغم أنهما منفكتان إلا أنه يمكن ربطهما، لكن الواقع هو أن من يدافع عن هذا النظام (وهو نظام بشري يحتوي سلبيات أكثر من إيجابياته) إنما يدافع لأجل أنه في موقع الكفيل.
ومن هنا فإنني أدعو كل من يعجبه هذا النظام أن يتقدم ويعمل لدي مكفولا (كتجربة) لمدة شهر. ومستعد أن أغطي تجربته بالكاميرا والصوت، في برنامج واقعي وثائقي، أنشره بعد ذلك في الإنترنت، ثم لنرَ بعد ذلك انطباعه عن الموضوع، ولنتلقّ بشأنه التصويت وآراء الجمهور، ولن يعجبه النظام بأية حال، اللهم إلا إذا كان ماسوشيا. وأنا موجود في مدينة الرياض، ومن كان مستعدا لإجراء الامتحان عليه وتسجيله فأنا على الرحب والسعة.
مسألة أخرى: لا يعني كلامنا في نظام الكفالة أنه لا يرتبط بأنظمة أخرى سيئة مثل نظام الاستقدام الأعمى، فأن تستقدم مليون عامل كل عام، ثم تبدأ في الشكوى منهم هذا أمر غير منطقي، يجب أن يوقف الاستقدام الأعمى، وأن يوقف الاستقدام الابتدائي تماما، ويشجع الأجانب على استهلاك أموالهم في الداخل، وذلك بطمأنتهم إلى ضمان مستقبلتهم وإمكان تصحيح أوضاعهم في البلد، وأن يكون الهدف الأسمى من جميع الأنظمة هو تحقيق النماء للوطن والرفاهية الاقتصادية لجميع أفراد المجتمع. وأن نريح أنفسنا من الحسد، كما أراحت منه الدول المتطورة أنفسها. أما أن يقيم إنسان في بلد مدة خمسين عاما ويمتلك فيها أحفادا ثم يكون مهددا بالتسفير والتهجير والطرد، وأحيانا يسفر الفلسطيني إلى السودان (سبحان الله!)، لأجل أن كفيله ألغى إقامته، فأي مهزلة هذه؟
إنني أعرف شخصا له أكثر من خمسة أطفال، وزوجته تقيم معه في السعودية، ووالدها يقيم معها في السعودية، وعندما حصلت له مشكلة مع الجامعة التي تكفله اضطر إلى أن يعطي زوجته (صك طلاق صوري) لكي يتاح لها أن تقيم مع أبيها وأولادها! وتم تسفيره هو إلى الخارج، بعد إقامة عشرين سنة في السعودية! فهل هذا من الإسلام في شيء؟ وأعرف امرأة كبيرة في السن وجميع أهلها موجودون في السعودية، توفي زوجها وليس من حق شقيقها ولا ابن أخيها ولا ابن أختها أن يكفلها، فاضطر أخوها أن يزوجها بصك زواج صوري من أحد أقاربه حتى يتسنى لها البقاء في ظل بيت أخيها! هل هذا من النظم في شيء؟ هل أقرت النظم الشرعية والعقلية والإنسانية بتشريع هذه الأشياء؟ يقيم رجل في المملكة العربية السعودية أربعين عاما، ثم يقبض عليه ويسفّر إلى بلده فقط لأنه اكتشف أنه يعمل عملا إضافيا (كطابع في مكتبة أو مدرس خصوصي) في ظل الغلاء وعدم توفر وسائل المعيشة؟
إن المقيم في السعودية لا يحق له أن يضيف ابنته إلى إقامته بدون موافقة كفيله وكتابته الخطية بالموافقة بذلك. فلنتفرض أن كفيله قال له: (لن أكتب لك)، فهل هذا يعطي كفيله الحق في أن يمنعه من إضافة ابنته إلى إثباته؟ إنك حين تتزوج امرأة وتريد نقل كفالتها إليك في السعودية فإنك تحتاج إلى أن يعطيك الكفيل طلبا للجوازات بإضافتها إلى أوراقك، فلنتفترض أنه قال لك: لا تتزوج؟ ما دخله بينك وبين زوجتك؟ وإذا أردت أن تسافر معها إلى بلدك ورفض أن يوقع لك على سفرها معك فلتعلم أنك لن تستطيع أن تسافر معها، بل سيبقيها رهينة عنده حتى يضمن عودتك وعدم خروجك النهائي!!!
وكذلك أعرف رجلا بلغ التسعين من عمره (وقد تدخلت في قضيته شخصيا وتوسطت في حلها) غادر مدينة الرياض معتمرا، وعندما توسط الطواف في بيت الله الحرام أثناء أدائه العمرة تم القبض عليه بحجة أنه متسول، مع العلم بأن له ابنتين متزوجتين من رجلين سعوديين وهو في حال اقتصادية جيدة، فلم يكن من أمر الجوازات إلا أن قررت ترحيله، وقضت التعليمات بحجزه حتى يحضر جميع أفراد أسرته ويتم ترحيلهم معه، وكان في حالة طبية تهدده بالموت، ويعاني من أمراض صدرية ومعوية ومن خلل في بعض الأجهزة الحيوية، وقد ظل في الترحيل متيبسا يعاني خطر الموت المحدق، برغم كتابة الطبيب تقريرا بأنه لا يستطيع البقاء في الترحيل ولا تسمح صحته بتسفيره في الوقت الحالي، ومع ذلك لم نستطع إخراجه إلا بعد أن قدمنا تعهدا بكفالته وإحضاره هو وجميع أفراد أسرته للترحيل مع الإقرار بالتكفل بقيمة التذاكر! وقد حاولت من ابنتيه السعوديتين والمتزوجتين من سعوديين ولهما منهما أبناء وبنات، حاولت منهما أن تكتبا له خطابا إلى أمير الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز حفظه الله التماسا للإفراج عنه فأصابهما التردد، لكن بعد محاولات لم توافق إلا إحداهما بعد ممانعة شديدة من زوجها السعودي، وكتبت له تلتمس الإفراج عنه وتقول: إنني سعودية وليس لأبي أحد غيري، وأنا هنا لدى زوجي ولدي أطفال منه سعوديون ولا أستطيع أن أقوم بحق والدي إذا تم تسفيره، مع أنه في حالة لا تسمح بالسفر بموجب حالته المرضية. وأخذت خطاب هذه البنت المجروحة وأرفقته بخطاب أمير آخر من العائلة المالكة وتقدمت به إلى الإمارة، ووافقت إمارة الرياض مشكورة بأمر صاحب السمو الأمير سلمان بن عبد العزيز على الإفراج على الفور ومنحه أوراقه في خطوة إنسانية رحيمة، لكن إجراءات الإفراج استغرقت أكثر من شهر. ولكن تبقى هذه المأساة وكل ما هو نظير لها كلها عائدة إلى سلبيات هذا النظام، ومع ذلك لا نفقد الأمل من رجال طيبين في هذا البلد كم أغاثوا ملهوفا وأكرموا ضعيفا. وقد خرج هذا الرجل بعد تجربة سجن طالت أكثر من ثلاثة أشهر في أسوأ حال، ولا يزال في خطر مفارقة الحياة تحت وطأة المرض في سن التسعين. وبعد إقامة في السعودية دامت بضعة وعشرين عاما.
وهكذا إذا أردت أن تدفع من جيبك لتعلم القيادة فيجب عليك أن تأتي بخطاب يفيد أنه يسمح لك بتعلم القيادة! وحين تشتري سيارة بمالك الخاص الذي رزقك الله إياه فيجب عليك أن تأتي منه بخطاب يسمح لك بشرائها؟ وماذا لو لم يسمح لك أن تشتري سيارة تقل عليها بنتك إلى المدرسة؟ هل سيمنعك أن تحملها على سيارة الأجرة؟ وعندما يحسدك على رصيد لك جمعته في البنك فإنه يستطيع أن يوقف إقامتك في كمبيوتر الجوازات أو أن يسجل عليك هروبا وأنت لا تدري، ويتوقف حسابك البنكي تماما، حتى تأتيه وتركع عند قدميه! ما دخل هذا في حفظ حقوق الكفيل؟ إنني حين أضع شخصا تحت كفالتي في السعودية فمعناها الحرفي أنه: تحت رحمتي الخاصة، وليس تحت طائلة النظام، أي نظام، وأستطيع أن أورطه على الأقل سنة كاملة، دون أن يفعل شيئا يذكر، بل أستطيع أن أحاربه نفسيا وأقنعه أن يزوجني ابنته أو أخته أو أسفره رغما عنه، فهل هذا من الحق في شيء؟ بل إنك إذا كنت أجنبيّا، وابنة عمك سعودية وأحببت أن تتزوجها بموافقة منها ومن أبيها فإنك لن تتزوجها إلا بموافقة خاصة من وزارة الداخلية، لأنها سعودية وأنت أجنبي، مع أنها ابنة عمّك، ولن توقع لك أي محكمة بدون هذا الإذن الخاص! ويجب عليها أن تعلم عند تلك الموافقة أن أبناءها ليس لهم أي مستقبل مشرف في هذه البلاد، لأنها رضيت أن تلد طفلا مع أجنبي، أين هذا من الإسلام الذي يبيح عقد زواج كل مسلم؟ بشرط الموافقة والمهر والولي والشاهدين؟ كيف ترتب عقوبات مقنعة على شعيرة من شعائر الإسلام كالزواج الشرعي؟ كل هذه السلبيات والعشرات الأخرى ناتجة من نظام الإقامة والعمل في بعض الدول الخليجية، ونتمنى أن نراها وقد اختفت كما يزول الكابوس الخانق، لأنها سوف تسجل في التاريخ، وسوف يقارن بينها وبين نظم الاستعباد في القرون الوسطى، وكما قلت مرارا وتكرارا، الذاكرة البشرية لا تنسى.
وأخيرا: يجب أن أذكر بأن كثيرا من العمال أيضا يظلمون أصحاب العمل، ويحتالون على النظام، ويستغلون كرم المواطن الخليجي وتساهله لسرقة أمواله واستغلاله، ولكن يبقى الكفيل هو الأقوى، ولذلك يأتي الظلم منه في الغالب.
أيها الخليجيون الكفلاء: من منكم إذا خاصمه مكفوله في مسألة شخصية لا يهدده بالتسفير؟ من منكم إذا أراد مكفوله أن يسدد له قيمة تأشيرته وخسائره وطلب منه نقل الكفالة يعطيه إياها بدون أخذ ولا رد؟ من منكم يفكر أن يشعر هذا المكفول بالراحة ويساعده في صرف أمواله في السعودية بدلا من إشعاره بالرعب ليجمع قدر ما يستطيع ويختلس قدر ما يستطيع ويهرب به إلى بلده؟ إن السعودية هي المهجع الأخير للإسلام الآن، في ظل انتشار سيطرة العلمانية والنظم الغربية المنحلة التي لم تجد لها مسوقا إلا حقوق الإنسان والأفراد والأقليات. فهل نحن بهذا التخلف حتى نسمح للآخر باكتساحنا فقط: لأننا لا نجيد التعامل بإنسانية مع الإنسان؟
التاريخ لا يرحم، والثقافة والعلم لا تعني سلامة الأخلاقيات! فألمانيا التي كانت أشد الدول تطورا علميّا عاشت مرحلة النازيّة، ومصر القديمة التي عاشت أقوى حضارة وتطور زراعي وعمراني وفلكي ورياضي عاشت فترة اضطهاد بني إسرائيل. والتاريخ لا يرحم!
نموذج لأجنبي من الماضي:
يوسف عليه السلام: كان أجنبيا، واستضافه الفرعون وحوله إلى وزيره لماذا؟ لأنه حفيظ عليم.
فهل يكون فرعون مصر أرحم بالوافدين منا؟
لكن ما الذي جرى بعد ذلك لبني إسرائيل؟ وبماذا كافأت مصر يوسف عليه السلام وذريته هو وإخوته؟ كافأته باستحياء نساء بني إسرائيل وقتل أولادهم.
أما النماذج من الحاضر فحدث ولا حرج.
لنجلس مع أنفسنا جلسة هادئة، نعادي الظلم فيها ولو كان منا. ونقف فيها مع العدل ولو كان ضدنا ظاهريا، لأنه في صالحنا في النهاية.
ولنخف الله سرا وجهرا، ولا نخش فيه لومة لائم، وعندئذ تحل الأمور إن شاء الله.
وما من يد إلا يد الله فوقها
ولا ظالم إلا سيبلى بأظلمِ
خاتمة: إن هذا الموضوع كان يؤرقني وظل يؤرقني طويلا، ولذلك كان موضوعا لروايتي الأخيرة (كيف تصنع يدا) وهي بفضل الله رواية حديثة تجريبية، وهي على وشك الطباعة، وأتمنى أن تتاح لي الفرصة في ترجمتها إلى أي لغة، ليتم من خلال ذلك نقل هذه التجربة الإنسانية إلى العالم الآخر، ولكم فائق التحية.
المفضلات