أيهما أعظم: محمد أم المسيح، عليهما جميعا السلام؟ (1)
د. إبراهيم عوض
هذه الدراسة التى بين يدى القارئ هى فى الرد على كتاب من الكتب التى تمتلئ بها مواقع النصارى المهجريين يتحدَّوْن بها المسلمين، وعنوانه: "من هو الأعظم؟ المسيح أم محمد؟سؤال لا بد من جوابه. رواية دينية بعد حادث واقعي". والملاحظ أن عبد المسيح وزملاءه يتكلمون عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، لا على أنه دَعِىٌّ كذاب، بل على أنه نبى كبير وعظيم من عظماء التاريخ، بل على أنه ثانى أعظم عظيمين هما المسيح ومحمد عليهما السلام. ومن هنا يرى القارئ أن أسلوب ردى على الكتاب مختلف عن ردودى على القمص المفضوح، إذ لا يُعْقَل أن أسىء إلى مؤلف لم تَفْرُط منه إساءة وضيعة ظاهرة إلى الإسلام أو رسوله العظيم، وإن لم يمنعنى هذا من التنبيه التفصيلى لكل الثغرات التى فى كتاب عبد المسيح وزملائه. وقد قمت فى الدراسة التى نحن بصددها الآن بتقسيم كتاب عبد المسيح وزملائه إلى عدة أقسام، موردًا أولاً كل قسم من هذه الأقسام مظلَّلاً باللون الأصفر، ثم مُتْبِعًا إياه بالرد المطول على ما فيه، لكن دون تظليل. وبعد هذا التوضيح أترك القارئ مع الكتاب والرد عليه ليحكم بنفسه لنفسه فى هذا الموضوع الهام.
* نعيش في عصر السرعة حيث قرّبت الطائرات السريعة القارات البعيدة، وتحرك فيضان الكتب وبرامج التلفزيون قلوب الشعوب، وتختلط القبائل والأجناس تلقائيًا. وتطفو الأسئلة وتدور الأبحاث، فينبغي على الجميع أن يتساءلوا: ما هو الحق الأزلي؟ وما هي الأفكار البناءة التي نقبلها بضمير صالح وبدون اشمئزاز؟ فكل من يتعلم الاستماع والإصغاء لآراء الآخرين يكتسب أفقًا أوسع من محيطه المحدود.من هو الأعظم؟ المسيح أم محمد؟
سؤال لابد من جوابه- رواية دينية بعد حادث واقعي
عبد المسيح وزملاؤه
تمهيد:
** ونحن مع عبد المسيح وزملائه فى أن يفتح الناس جميعا عقولهم وقلوبهم لمعرفة ما فى أيدى الآخرين وتقليب البضاعة التى يعرضونها قبل أن يصدروا حكما عليها، إذ الحكم على الشىء فرع من تصوره. أما إذا كان التصور غير موجود أصلا لأن الإنسان لم يطلع على ذلك الشىء، فهل يا ترى من المستطاع له أن يصدر حكما بشأنه؟ بالطبع لا. والمعروف أنه فى كل مرة من المرات التى كان الكفار يعترضون على نبينا الكريم كان القرآن يدخل معهم فى حوار ويجادلهم ويعرض ما عنده فى سعة صدر، ويفنّد ما عندهم بمنطق مفحم، ويطلب منهم دائما تشغيل مخهم وعرض كل شىء على عقولهم قبل أن يرفضوه. ولم يقع قط أن صادر حقهم فى التفكير ولا فى القبول والرفض. كذلك يعلن القرآن فى مواضع متعددة منه أن العقل هو أساس الإيمان، وأن كل إنسان حر فى أن يؤمن بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام أو يكفر، فهذه مسؤوليته الشخصية، لا دخل لأحد سواه فيها، ولا حساب عليه إلا فى حدود الوُسْع. وعلى هذا ينبغى أولا أن يُعْرَض الإسلام عليه عرضا حسنا يُبْدِى عما فيه من روعة وإبداع، وإلا فكيف يمكن أن يكون هناك حساب لمن لم يعرف شيئا عن الإسلام، أو عرفه ولكن بطريقة مشوهة تستر محاسنه وتضفى عليه عيوبا لا يعرفها ولا تعرفه، وليس ثمة وسيلة يمكنه بها أن يعرف الحقيقة فى أمر ذلك الدين؟ قال سبحانه وتعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، "لا إكراه فى الدين. قد تبيَّن الرشد من الغَىّ"، "وإنا أو إياكم لعلى هُدًى أو فى ضلال مبين"، "قل: لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسْأَل عما تعملون"، "كذلك زيّنّا لكلِّ أمةٍ عملَهم، ثم إلى ربِّهم مَرْجِعُهم فينبّئهم بما كانوا يعملون"، "وقل: الحقُّ مِنْ ربّكم، فمن شاء فلْيُؤْمِنْ، ومن شاء فلْيَكْفُرْ"، "قل: إنى أعظكم بواحدةٍ: أن تقوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى، ثم تتفكروا: ما بصاحبكم من جِنّة. إنْ هو إلا نذيرٌ لكم بين يَدَىْ عذابٍ شديد". خلاصة القول أننا نوافق تماما عبد المسيح وأصحابه فيما يدعون إليه فى هذه الفقرة التمهيدية.
* اعتاد أحد خدام الرب زيارة السجون في إحدى البلدان العربية ليُعْلِن طريق الحياة للمساجين. وكان يحصل على رخصة رسمية من دوائر الحكومة لزيارة كل من يريد أن يسمع بشارة الحق والسلام التي تطهّر القلوب وتغيّر الأذهان. وكان خادم الرب هذا يدخل الزنزانة بدون مرافقة حارسٍ، رافضًا الحراسة ومتأكدًا أن البحث الصريح لا يجري مع المسجونين تحت المراقبة، فكان يتقدم منفردًا إلى غرف المجرمين ويجلس معهم. دخل مرة إلى جماعة من السجناء محكوم عليهم بالسجن أكثر من عشر سنوات، وكانوا قد عرفوه من زياراته السابقة وتعوّدوا أن يستمعوا إلى إرشاداته للحق وبشرى الخلاص. وكانوا يتباحثون بعد خروجه حول خطاباته بشدة وحماس لا نظير لهما. لما دخل هذه المرة إلى زنزانتهم أقفلوا فورًا الباب وراءه قائلين له: إنك لن تخرج من هذه الغرفة إلا إذا جاوبتنا جوابًا قاطعًا وصريحًا على سؤالنا، فردّ خادم الرب عليهم قائلا: إنّي آتي إليكم طوعًا وبدون حارس مسلح وأقدم لكم أجوبة من كلمة الله بقدر إمكانياتي، وما لا أعرفه لا أقوله. فأجابوه: لا ننتظر منك أسرارًا عن النجوم ولا أساليب السحر بل نطلب منك كرجل دين جوابًا قاطعًا ونهائيًّا على السؤال المتداول بيننا: من هو الأعظم؟ محمد أم المسيح؟ لما سمع خادم الرب هذا السؤال قال في نفسه وهو في حيرة: إن قلت إنّ محمدًا هو الأعظم يهاجمني السجناء المسيحيون، لأنّ الجالسين في هذه الزنزانة كانوا مجرمين وبلا ضمير. وإن قلت إن المسيح هو الأعظم لربما يقوم أحد المسلمين عليّ ويكسر رقبتي من شدة غيظه، علمًا أن كل من يهين محمدًا أو يشتمه يُعتبر عند بعض المسلمين مجدّفًا يستحق الموت. فصلى خادم الرب في قلبه سائلاً ربه ليُلهمه الإجابة الحكيمة المقنعة لهؤلاء السجناء. وكل من يسأل إرشاد الرب في الأوقات الحرجة ينل منه الجواب فورًا. فألهم الروح القدس هذا الخادم المتضايق، وهو خلف الباب المغلق، جوابًا واضحًا قدمه بتواضع. ولما تباطأ خادم الرب أثناء صلاته الصامتة للإجابة على هذا السؤال قال له المساجين: لا تتهرب من مسؤوليتك، ولا تكن جبانًا، بل اعترف بالحق كله. فنتعهد لك بأن نتركك بلا إهانة ولا مضايقة مهما قلت لنا. فلا تكذب ولا تُخْفِ أفكارك، بل أخبرنا بالحق الكامل. فابتدأ رجل الله يقول: أنا مستعد أن أقول لكم الحق الصريح، إنما السؤال المطروح أمامي ليس هو الموضوع الذي أعددته لكم اليوم من الكتاب المقدس، ولكن إن صمّمتم على أن تسمعوا المقارنة بين محمد والمسيح فلا أُخْفِي عنكم الحقيقة. إنما لست مسؤولاً على ما ينتج عن شروحاتي، بل أنتم المسؤولون لأنكم تجبرونني على إجابة سؤال لم أطرحه وما نويته إطلاقًا. فهذا هو ردّي: لا أقرر أنا من هو الأعظم، بل أترك القرآن والحديث أن يُعطيَكم جوابًا مقنعًا. تأملوا في القرآن بأعين الحق فتعرفوا الحق المخفيّ، والحق يحرركم.1- السؤال المثير:
** بالنسبة لهذه القصة يؤسفنى أن أقول إنها لا تدخل العقل، بل هى من اختراع المؤلف أو المؤلفين، اخترعوها لتكون إطارا فنيا مشوقا متوسمين أن يكون الإقناع بها على هذا النحو أشد وأفعل فى نفس القارئ، وإلا فأية دولة عربية تسمح لواحد من غير ضباط السجن وجنوده أن يدخل زنازين المسجونين، فضلا عن أن يترك المسؤولون فى السجن باب الزنزانة وراء الوعاظ ليقوم المساجين بإغلاقه بأنفسهم من الداخل (الله أكبر!) أو تركه مفتوحا حسبما يحلو أو يعنّ لهم لا حسبما يريد المسؤولون فى السجن؟ إن المتَّبَع فى مثل تلك الحالة هو إخراج المساجين من زنازينهم إلى قاعة كبيرة حيث تتم أمثال تلك المقابلات، أما فى الزنزانة فلم نسمع بمثل هذا فى آبائنا الأولين! ثم كيف يا ترى يمكن أن نصدق لجوء المسلمين لواحد من القسس لحسم السؤال موضوع القصة؟ وهل يشك المسلم فى هذه القضية، بَلْهَ أن يلجأ إلى قسيس يعلم هو قبل غيره أنه سيختار المسيح بطبيعة الحال؟ وكيف لم يلجأوا إلى عالم مسلم يستفتونه فى هذه المسألة إن ثار فى أذهانهم مثل هذا السؤال أصلا؟ ذلك أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء والمرسلين ويحترمونهم كلهم. وهم، وإن آمنوا بأن محمدا هو أفضل الأنبياء، لا يجعلون منها قضية يدخلون بسببها فى مجادلات ومماريات مع كل من هب ودب.
ولنلاحظ التفرقة التى صور بها الكاتب أو الكتاب رد الفعل عند كلا الفريقين: فأقصى ما سيفعله النصارى بالقسيس إن اختار النبى محمدا أنهم سيهاجمونه. وليأخذ القارئ باله من أنهم "سيهاجمونه" وكَفَى دون أن يكون هناك تحديد لنوعية هذا الهجوم، وهو ما قد يعنى العمل على ضربه دون أن يشفعوه بالتنفيذ بالضرورة. فهذا ما يفد على الذهن حين نسمع كلمة "يهاجمونه". أما عندما وصف استجابة المسلمين لتفضيله المفترض للسيد المسيح فقد قال تحديدا: "وإن قلت إن المسيح هو الأعظم لربما يقوم أحد المسلمين عليّ ويكسر رقبتي من شدة غيظه، علمًا أن كل من يهين محمدًا أو يشتمه يُعتبر عند بعض المسلمين مجدّفًا يستحق الموت". والفرق واضح للأعمى، وهو يعنى أن الكاتب أو الكتاب يصف المسلمين بالقسوة والفظاظة، بخلاف النصارى، فإن أقصى ما يُتَوَقَّع من مجرميهم عديمى الضمائر أن يهاجموه، لكن دون أن يكسر أحد منهم رقبته على الإطلاق. كما أنه فى الوقت الذى ينص على أن الموت ينتظر من يشتم النبى محمدا فإن النصارى لا يفكرون فى شىء من هذا البتة. ولم لا، وهم ناس متحضرون حتى لو كانوا مساجين مجرمين بلا ضمير؟
ولكن قبل ذلك كله كيف يريد منا مؤلف القصة الاقتناع بأن أمثال هؤلاء المجرمين عديمى الضمير (كما يسمونهم) يمكن أن تشغل عقولهم فى السجن (مرتع الجرائم والفساد كله) مثل تلك القضايا الترفية التى لا تفد إلا على أذهان من ارتَقَوْا فى تدينهم وقطعوا فى ذلك أشواطا بعيدة؟ ثم قبل قبل ذلك كيف تسمح السلطات فى بلد من البلاد أن يدخل واعظ من دينٍ ما الزنزانة على جميع المساجين من كل الأديان دون أن تفرز أبناء دينه على حدة فيكلمهم براحته فى شؤون دينهم دون أن يزعجوا الآخرين بما يقولون، بل بما يمكن أن تقوم بسببه فتنة فى الزنازين لا يعلم مدى فداحتها إلا الله وحده؟ بل هل يمكن أن يقبل العقل ترك السلطات المسلمة فى السجن واعظا نصرانيا يدخل على مساجين مسلمين يبشرهم بدينه مع أبناء طائفته؟ الحق أن هذا كلام لا يهضمه العقل مثلما لا يهضم العقلُ معكوسَ هذا الوضع من سماح السلطات فى بلد نصرانى لواعظ مسلم بالدخول على المساجين النصارى يعرض عليهم دينه ويعمل على إدخالهم فيه! وأخيرا فمنذ متى يحسن المجرمون عديمو الضمير أن يقولوا مثل هذه العبارة المتنوّقة: "لا ننتظر منك أسرارًا عن النجوم ولا أساليب السحر بل نطلب منك كرجل دين جوابًا قاطعًا ونهائيًا على السؤال المتداول بيننا: من هو الأعظم؟ محمد أم المسيح؟"؟ وهل يا ترى سوف يقتنع المسلمون بما سيقوله واعظ نصرانى عن تفضيل المسيح؟ وكيف يعرفون أنه صادق فى حكمة أو كاذب؟ ما معيار الصدق والكذب هنا؟ إنه، لدى السائلين فى قصتنا، هو أن محمدا الأفضل، وما عدا هذا لن يكون فى نظرهم صدقا على الإطلاق!
ونصل إلى العبارة الأخيرة، وهى تكشف أن القصة كلها، كما قلت آنفا، قصة مخترعة، فها هو ذا القسيس يقول إنه سوف يترك القرآن والحديث يعطيانهم جوابا مقنعا. أى أن الكلام موجه إلى المسلمين وحدهم، وهو من ثم لا يريد أن يقدم لهم دليلا من خارج الكتاب والسنة اللذين لا يؤمنون إلا بهما. فأين ذهب النصارى إذن؟ أولم يكونوا ضمن من كانوا يتباحثون فى تلك القضية وسألوه الجواب فيها، وخاف هو نفسه منهم أن يهاجموه إذا أجابهم بما لا يتوقعونه ولا يريدونه؟ ثم إن قوله: "إن قلت إنّ محمدا هو الأعظم يهاجمني السجناء المسيحيون" لهو دليل آخر على أن القصة مخترعة مفتراة، إذ كيف يتصور أن من المستطاع إقناعنا بأنه يمكن أن يصدر الحكم منه لصالح محمد، وهو الذى يؤمن بأن المسيح إله أو ابن الإله، ومحمد على أحسن تقدير هو مجرد نبى؟ فمن يا ترى يضع النبى البشر قبل الإله؟ اللهم إلا إذا أراد أن يقول لنا إنه كان واعظا تجريديا لا ينتمى إلى أى دين، بل يدعو إلى الفضيلة المطلقة دون ربطها بعقيدة أو عبادة معينة. لكن هذا الافتراض يكذبه تسميته بـــ"عبد المسيح" تكذيبا شديدا! كذلك فإن الواعظ النصرانى يعلن أنه سوف يتخذ معياره من القرآن والحديث النبوى، فهل سيفى بوعده فعلا ويلتصق بكتاب الله وسنة نبيه لا يخرج عنهما، أو سوف ينسى هذا الوعد ويخرج عنهما إلى العهد الجديد ولو بين الحين والحين، علاوة على تفسيره نصوص القرآن والسنة بما لا يقبلانه من تفسير؟ لن نسارع بالجواب الآن، وعما قليل سوف نرى ما يفعله "خادم الله" بنفسه.
* يعرف الجميع أن أبا محمد هو عبد الله، وأمه هي آمنة. فكان محمد إنسانًا حقًّا من والد معروف وأم محترمة. لم يذكر القرآن ولا يقول علماء الإسلام إن محمدًا وُلِد بطريقة غير طبيعية، فلم تخلقه بشارة ملاك، ولا وُلِد من كلمة الله، بل وُلد بطريقة طبيعية مثل باقي الناس من أبيه عبد الله وأمه آمنة. ويخبرنا القرآن مرارًا أن المسيح لم يولد بطريقة طبيعية كسائر البشر، ولم يكن أبوه بشرًا، فوُلِد من مريم العذراء بدون تدخّل أي رجل لأن الله نفخ من روحه فيها. فالمسيح هو الإنسان الوحيد الذي وُلِد من روح الله- سورة النساء 4:171، وسورة الأنبياء 21:91، وسورة التحريم 66:12. ليس المسيح إذن إنسانًا عاديًا بل روح إلهي وبنفس الوقت جسد عادي، إذ وُلد من روح الله ومن مريم العذراء. لم يولد محمد من روح الله، إنما وُلِد من أب حق وأم حقة، فهو جسد عادي فقط لا روح إلهي.2- ولادة محمد والمسيح:
** فأما أن محمدا قد وُلِد من أب وأم معروفين ومحترمين فهذا مما لا يخالف فيه أحد، وإن كان قد ظهر بين الحمقى الموتورين من المبشرين الأقباط فى الفترة الأخيرة من يستبله ويشكك فى هذا كتشكيكهم فى كل ما هو ثابت فى الإسلام لم يكن موضع شك أو جدال يوما من الأيام، لكنها الخطط التبشيرية الخبيثة ودعاياتها الفِجّة التى يظن أصحابها أنها يمكن أن توصلهم إلى شىء بعدما ذاقوا مرارة عجزهم عن أن ينالوا من المسلمين منالا، فكان لا بد لهم من اللجوء إلى الكذب، كالقمص المنكوح، الذى يأتى فى برنامجه ببعض المعاتيه من شبان النصارى ممن لا يحسنون شيئا سوى طَرْقه ودَقّه ويسمى كلا منهم بــ"الأخ محمد"، وكأن كل مسلم اسمه "محمد"، وكأن المبشرين النصارى يتركون أى متنصر على اسمه القديم، فضلا عن أن يكون هذا الاسم هو "محمدا"، الذى لا يوجد فى الدنيا كلها اسم يسبب لهم هرشا فى الجلد وانتفاخا فى القولون وصداعا فى الرأس مثله! كما يلجأ القمص المنكوح ذو الدبر المقروح إلى رفع "دائرة المعارف الإسلامية" الاستشراقية التبشيرية بيده فى وجه المشاهدين كلما ظهر فى برنامجه قائلا: انظروا! أنا لا آتى بشىء من عندى، بل أستقى كلامى من الموسوعة الإسلامية، موهما الجهلة الذين ليس عندهم نبأ من الأمر أن تلك الموسوعة إنما كتبها مسلمون لا يهود ونصارى وملاحدة غربيون يكرهون محمدا ودين محمد كراهية العمى، بل كراهية الموت. وهو أسلوب لا يليق بمن يزعم أنه يتكلم باسم الله ويدعو الناس إلى الصراط المستقيم، على حين أن صراطه كله التواء وخبث وكيد شيطانى، وإن كان مفضوحا لدى كل من لديه ذرة من العلم بتلك الأمور. لكن مؤلف الكتاب الذى بين أيدينا لا ينتهج منهاج القمص المنكوح وأضرابه وضاربيه وطارقيه، بل يقف عند حدود الأدب، أو على الأقل: حدود المجاملة، وهو ما نشكره له ونبادله بمثلها كلما وجب ذلك ولم يتعارض مع أى من اعتقادات ديننا أو مبادئه، فشكرا له على هذا وعلى كل ما قاله فى الكتاب، وهو غير قليل، أيا ما كان باعثه على ذلك، أى سواء قاله من قلبه وضميره أو كان الدافع له هو مجرد المجاملة كما قلت، ومنه أن محمدا نبى كريم، وأن دينه دين عظيم وما إلى ذلك، مما نعيد شكره عليه محاولين أن نرد بنفس الأسلوب ما أمكن، وهو ما يدل على أننا لا ننتهج نفس الطريقة مع جميع المجادلين من أتباع الديانات الأخرى، بل نميز بين مجادلٍ مهذَّبٍ، فهذا نحافظ على مشاعره، وخنزيرٍ نجسٍ دنسٍ حقير، فهذا ليس له عندنا إلا الحذاء القديم لرقعه به على استه المنتنة كذلك القمص المنكوح، ذى الدبر المقروح، الذى منه النتانة تفوح.
وأما أن محمدا لم يولد بطريقة غير طبيعية فهذا صحيح، إذ وُلِد كما يولد سائر البشر من أب وأم بشريين، وإن كان هناك من علماء المسلمين من أحاط مولده صلى الله عليه وسلم بطائفة من الأعاجيب كالبشارة التى تلقتها أمه وهى نائمة بأنها بسبيل ولادة طفل لا نظير له، وكتصدع إيوان كسرى وانبلاج نورٍ أضاء ما بين الشام ومكة، وغير ذلك من المعجزات التى لا يصدّق بها إلا بعض علماء المسلمين لا كلهم، وبخاصة أن القرآن لم يذكر شيئا من هذا ولا السنة النبوية الصحيحة. وهو مما يُحْسَب للإسلام ونبيه، الذى لو كان نبيا زائفا كما يتهمه الحَقَدة من مروِّجى الأكاذيب لزعم المزاعمَ حول ميلاده وشخصيته، لكنه لم يفعل، لسبب بسيط: هو أنه ليس مؤلف الدين، بل مجرد رسول نزل عليه القرآن فبلّغه كما هو للعالمين دون زيادة أو نقصان أو تحريف.
وأما أنه عليه السلام لم يُولَد بكلمة الله فهذا ما لا نواقق عليه بطل القصة المخترعة، إذ ما من شىء فى الدنيا إلا وقد أتى إلى الوجود بكلمة الله: "كن، فيكون". قال عز شأنه: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن، فيكون"، "إنما أَمْرُنا لشىء إذا أردناه أن نقول له: كن، فيكون". كما نص القرآن على أن مولد عيسى، وإن اختلف قليلا عن الوضع الطبيعى لتوفر الأم فيه دون الأب، فهو لا يختلف عن ميلاد آدم من حيث إن كليهما تم بكلمة الله: "كن فيكون": "إن مَثَل عيسى عند الله كمَثَل آدم. خلقه من ترابٍ ثم قال له: كن، فيكون". بل إن أمر آدم أعجب وأدعى إلى الدهشة بالنسبة لنا نحن الذين تعودنا على أن نرى المواليد يأتون من جراء اللقاء الجنسى بين رجل وامرأة، لا من تراب، وهو يزيد بما لا يقاس عن ميلاد المسيح من مريم فقط عليها السلام مما يفسره اليهود الملاعين بأنه ثمرة الخطيئة بين الأم ورجل من البشر يقولون تارة إنه يوسف النجار، وتارة إنه جندى رومانى، وهو ما يرفضه المسلمون تماما ويعدون القول به كفرا بواحا لا ريب فى ذلك. ووجه الإيغال فى العجب والدهشة فى أمر آدم أنه خُلِق من تراب، لا من أب وأم ولا من أم فحسب، بل من تراب. وهو أدعى إلى العجب والدهشة من أمر ميلاد المسيح كما هو واضح وضوح الشمس.
وأما قوله إن "القرآن يخبرنا مرارًا أن المسيح لم يولد بطريقة طبيعية كسائر البشر، ولم يكن أبوه بشرًا، فوُلِد من مريم العذراء بدون تدخّل أي رجل لأن الله نفخ من روحه فيها. فالمسيح هو الإنسان الوحيد الذي وُلد من روح الله: سورة النساء/ 171، وسورة الأنبياء/ 91، وسورة التحريم/ 12" ففيه، وفيه: فالمسيح فعلا لم يولد بالطريقة الاعتيادية التى يولد بها سائر البشر من بعد آدم وحواء، لكن القرآن لم يقل إنه لم يولد من أب بشرى بما يومئ إليه هذا الكلام من مغزى، بل الذى فيه أنه لم يولد من أب بشرى أو غير بشرى، وإلا فليدلنا أىٌّ كان على أى نص فى كتاب الله يقول إن عيسى قد ولد من أب غير بشرى. القرآن واضح الدلالة فى أن عيسى هو ابن مريم فقط، ولهذا سُمِّىَ كثيرا فى القرآن بـــ"عيسى بن مريم" أو "المسيح عيسى بن مريم"، وهو ما ليس له من معنى إلا أنه ابن امرأة فحسب، ولا أب له على الإطلاق لا بشرى ولا غير بشرى. وأى قول بأنه هو ابن الله كما يُلْمِح الواعظ هنا من طَرْفٍ خَفِىٍّ هو كفر وشرك صراح لا جدال فى ذلك. وهذه النقطة هى أحد الفروق الجوهرية بين الإسلام والنصرانية، ولكل إنسان أن يؤمن بما يريد لا مشاحّة لأحد سواه فى ذلك، لكن هذا شىء، والتلميح بأن القرآن يقول ببنوة المسيح عليه السلام لله شىء آخر مختلف تمام الاختلاف، ولا يتماشى مع عقيدة الإسلام ولا نصوص القرآن والسنة فى قليل أو كثير. وأى محاولة للتضليل فى هذا السياق هى محاولة مقضىٌّ عليها بالفشل ولا تجدى صاحبها فتيلا، فلا داعى لها إذن. المسيح فى الإسلام هو عبد الله ورسوله لا غير، مثله مثل نوح وإبراهيم وموسى وزكريا ويحيى وعيسى وهود وصالح وشعيب لا أكثر ولا أقل، مع اختلاف الدرجات من رسول إلى آخر، وزعيمهم كلهم هو محمد عليه السلام، إذ هو رسول للعالمين جميعا وخاتم النبيين والمرسلين، كما أنه لم يكن رسولا فقط، بل وضع مبادئه موضع التطبيق، فكان رئيس دولة وقاضيها، وكذلك قائدها العسكرى فى معظم الأحيان.
ويبقى قوله إن المسيح هو الإنسان الوحيد الذى وُلِد من روح الله، وهذا أيضا قول لم يقل به القرآن المجيد، بل قال إن البشر جميعا قد نُفِخ فيهم من روح الله، إذ جاء فى سورة "السجدة": "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)"، وفى سورة "الحجر": "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)"، وفى سورة "ص": "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)". بل جاء أيضا فى القرآن قوله تعالى إن الله سبحانه قد أوحى إلى محمد روحا من أمره: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)". فهل بعد هذا يمكن المجادلة بأن عيسى هو الوحيد الذى وُلِد من روح الله؟ لا إخال هذا ممكنا أبدا! وعلى ذلك فقول الواعظ فى آخر الفقرة السابقة: "ليس المسيح إذن إنسانًا عاديًّا بل روح إلهي، وبنفس الوقت جسد عادي، إذ وُلد من روح الله ومن مريم العذراء. لم يولد محمد من روح الله إنما وُلِد من أب حق وأم حقة، فهو جسد عادي فقط لا روح إلهي" هو كلام لا يمكن التسليم به لأنه تَقَوُّلٌ على الله والقرآن بغير حق كما رأينا معا. كذلك فقوله إن المسيح عليه السلام، حسبما جاء فى القرآن، روح الله، هو كلام خاطئ تماما، فالقرآن يقول إن الله نفخ فى مريم من روحه، ولم يقل إن عيسى هو روح الله، مثلما قال إن الله نفخ فى الطين من روحه فكان الإنسان الذى هو آدم وحواء وأولاد آدم وحواء إلى يوم يبعثون. لو أنه قال إنه وقومه يؤمنون بهذا فلا تثريب عليه، إذ هو حر فى اعتقاده رغم أننا نراه مخطئا فى هذا الاعتقاد. كما أنه قد أخطأ فى نسبة هذا الاعتقاد إلى القرآن، ولن نقول إنه "كَذَبَ" فى ذلك، جريًا على ما قلناه قبل قليل من أننا سوف نتمسك بأهداب المجاملة إلى أقصى حد ما دمنا لن نخرج على مقتضيات إيماننا بالله وبرسوله وكتابه المجيد.
* نقرأ في القرآن بخصوص المسيح أن الله بشرّ مريم العذراء أنه سيُولَد المسيح منها. فالقرآن يقول: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ -سورة آل عمران 45. فالقدوس نفسه منح لمريم البشرى السارّة عن ولادة المسيح وسمّاه: كلمة منه. لقد استمع كل الأنبياء الصالحين إلى كلمة الله ونقلوها بإخلاص مهما كلّفهم الأمر. أما المسيح فلم يسمع الوحي، بل هو كلمة الله المتجسّد. وحلّ فيه سلطان الكلمة الإلهية بقوتها الخالقة الشافعة الغافرة المعزّية والمجدّدة. فلأجل ذلك أعلن الله مسبقًا ولادة المسيح لمريم العذراء شخصيًّا مؤكدًا لها الأعجوبة العظمى. لم نقرأ في القرآن عن محمد أنه كلمة الله المتجسد، إنما نقرأ أنه تلقى الوحي ونقله إلى مستمعيه. ولم يبشر الله أمه آمنة بشارة خاصة، ولم ينفخ روحه فيها، أما مريم العذراء فواجهها الملاك جبرائيل المرسل من الله فقبلت منه روح القدس. وأصبحت المختارة بين النساء كقول القرآن: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ- سورة آل عمران 42. وقد ورد اسمها في القرآن 34 مرة، بينما لم يرد اسم أم محمد ولو مرة واحدة.3- الوعود الإلهية عن محمد والمسيح:
** لا خلاف على ما قاله الواعظ عن تبشير الملائكة مريم بولادة المسيح، إذ الواعظ لم يزد على أن نقل ما نقرؤه فى القرآن عنه عليه السلام، ولذلك لن نقف أمامه، بل سننتقل لما قاله الواعظ بعده من أن عيسى هو كلمة الله المتجسد، وهو ما لا وجود لشىء منه فى القرآن البتة. ولو كان هذا كلامًا يعبر به الواعظ عن اعتقاده فى السيد المسيح لكان حُرًّا فيه، أما أن ينسب ذلك للقرآن فلا بد أن نقف ونوقفه قائلين له إنه قد أخطأ خطأ فاحشا، إذ ليس فى القرآن فى أى موضع منه أن عيسى عليه السلام هو كلمة الله المتجسد، فالله فى الإسلام يستحيل أن يتجسد لأنه ليس كمثله شىء، ومعروف أن هناك أشياء متجسدة لا تقع تحت الحصر والإحصاء، ومن ثم فالله لا يشبهها ولا يتجسد تجسدها. كما أنه سبحانه هو الأول، فلا شىء قبله، والآخِر، فلا شىء بعده، أما الأشياء المتجسدة فلها بداية ونهاية، ووجودها محدود، وليست أول شىء ولا آخره. كما أن قوله إن عيسى (طبقا لما ورد فى القرآن) لم ينزل عليه وحى هو قول خاطئ لا أدرى من أين أتى به، ففى سورة "النساء" يطالعنا قوله عز وجل: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)". وفى هذا النص نقرأ أن الله قد أوحى إلى عيسى كما أوحى إلى محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأيوب ... إلخ. ومثله قوله عز شأنه من سورة "المائدة": "وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)"، فــ"إيتاء" الله عيسى الإنجيل هو هو نفسه "إيحاؤه" إياه إليه. أما لو قال واعظنا إن هذا هو اعتقاده لخَرَجَ بذلك من العهدة وأراحنا وأراح نفسه، أما أن يعزو شيئا إلى القرآن ليس فى القرآن فدون ذلك خَرْط القَتَاد كما كان العرب يقولون. ومثل ذلك قوله جلت قدرته: "وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (البقرة/ 87)، "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ" (المائدة/ 110)، فالله أرسل روح القدس لتأييد عيسى عليه السلام، وهو ما يشبه قوله سبحانه فى سورة "النحل" وسورة "الشعراء" على التوالى عن القرآن الذى أنزله سبحانه على محمد عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)"، "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)". ولا شك أن تخصيص القرآن سورة كاملة فيه لمريم عليها السلام وعدم تخصيص مثلها لأم الرسول الكريم ولا لأحد من زوجاته إنما هو برهان لا يُصَدّ ولا يُرَدّ على أنه رسول الله حقًّا وصدقًا من رب العالمين، وإلا لتحول الأمر عنده إلى منافسة شرسة فغطَّى على ذِكْر مريم وصَنَع بدلا منه شهرةً لنسائه وأمه. فيا لعظمة النبى الكريم!
وعلى ذلك فكل ما رتبه الواعظ على هذا هو عندنا مرفوض رفضا باتا جملة وتفصيلا، فسلطان الله وقدرته وقوته الخالقة لم تحلّ فى عيسى قط، وما كان لها أن تحل، لأنه عليه السلام فى القرآن ليس أكثر من عبد ورسول. أما إذا كان قد أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فإننا لا نشاحّ فى هذا، لكن القرآن واضح فى ذلك تمام الوضوح ولم يتركه مائعا، إذ قال إنه إنما كان يصنع من ذلك ما يصنع بإذن الله لا بإذنه، كما أكد القرآن أنه عليه السلام لا يملك لنفسه ولأحد غيره من الأمر شيئا. ثم إن غيره من الأنبياء صنع معجزات مثلما صنع. بل إن العلى الجبار سوف يوقفه أمامه يوم الحساب ويسأله كما يسأل عباده جميعا، وسوف يتنصل ساعتها من الخطيئة العظمى التى اجترحها بعض البشر حين نَسُوا أو تناسَوْا أنه عبد واتخذوه إلها. جاء فى سورة "المائدة": "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)"، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)"، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)". وفى سورة "مريم" وسورة "الزخرف" نقرأ تباعا: "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)"، "وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)".
* لمّا كان محمد فتىً أتى إليه ملاكان وطهرا قلبه. وفي هذا يقول القرآن: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ- سورة الانشراح 1- 3. ومنذ ذلك الوقت أصبح له اللقب الشريف المصطفى، فلم يكن صافيًا وطاهرًا في ذاته، إنما أخذ الملاكان الوِزْر من قلبه تطهيرًا. لقد احتاج محمد إلى عملية جراحية للقلب لتنقية فؤاده قبل أن يصبح نبيًّا ورسولا لله. نقرأ عن ابن مريم في القرآن إنها ستلد غلامًا زكيًّا حسب الآية: أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا- سورة مريم 19. وأجمع المفسرون العلماء مثل الطبري والبيضاوي والزمخشري أن كلمة "زكيًّا" تعني: صافيًا ونقيًا وبلا خطية. فقبل ولادة المسيح أعلن الوحي أنه يولد طاهرًا ويعيش بلا إثم. لم يكن محتاجًا إلى تطهير قلبه لأنه كان قدوسًا أصلا. ولم يستمع ابن مريم إلى كلمة الله فحسب، بل كان هو الكلمة ذاته. فلا فرق بين رسالته وسلوكه، إذ عاش ما قاله، وثبت بلا لوم وبدون خطية. يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة، ويذكر الأخطاء لبعضهم، ما عدا المسيح، فكان دائمًا بريئًا وطاهرًا. لقد حفظه روح الله منذ ولادته في القداسة الكاملة رغم طبيعته البشرية، فلم يسقط في التجربة لأنه كان روح الله المتجسد. اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها. إنما القرآن هنا واضح ويتكلم بصراحة. كان محمد إنسانًا طبيعيًّا مولودًا من والدين طبيعيّين، فعاش حياة الفِطرة، وأخطأ مثلنا واستغفر ربه عن ذنوبه وخطاياه، أما المسيح فوُلد من روح الله، وهو كلمة الله المتجسِّد، وعاش قدوسًا وطاهرًا منذ حداثته.4- براءة محمد والمسيح:
** إن ما قاله الواعظ النصرانى عن غسل الملاك قلب سيدنا محمد عليه السلام لهو شهادة عظيمة فى حقه، إذ معنى ذلك أن الرسول قد أصبح طاهرا من حظ الشيطان، أما المسيح فلم يصنع به الله شيئا من هذا، وهو ما يمكن أن يتعلل به من يريد مجادلة الواعظ، لكننا لن نفعل لأن غايتنا هى بلوغ الحقيقة أو على الأقل: الاقتراب منها. فلنضرب الآن إذن عن هذا صفحا، ولسوف نعود إليه فيما بعد، وليكن المسيح عليه السلام بلا خطيئة كما قال واعظنا، أفيجعل هذا منه إلها أو ابن إله؟ الواقع أنه لا صلة بين هذا وذاك. وما دمنا بصدد الاستدلال بالقرآن فكيف يصح تجاهل قوله تعالى مما سبق ذكره فى الفقرات الماضية: "قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا"، "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، "إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ"... إلخ؟ كما أنه سبحانه لم يقل فى حق عيسى مثل ما قاله فى حق محمد فى الآيات التالية: من سورة "القلم": "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)"، وسورة "الانشراح": "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)"، وسورة "النساء: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)"، وسورة "الحجرات": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)"، وسورة "الأحزاب": "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)" مثلا. وبالمثل لم يقرن سبحانه اسمه باسم نبيه عيسى كما قرن بينه وبين اسم نبيه محمد، ومنه ما نقرأ فى سورة "الأحزاب": "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)"، وسورة "الفتح": "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ... (10)"، وسورة "النساء": "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)"، "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ... (80)". كما تكرر فى القرآن القول بأن محمدًا رسولٌ للناس كافة، على حين أن عيسى رسولٌ لبنى إسرائيل ليس إلا. فأما فيما يخص محمدا فقد جاء فى سورة "الأنبياء": "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)"، وفى سورة "سبأ": "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)"، وفى سورة "التكوير": "إِنْ هُوَ (أى القرآن) إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)". وأما بالنسبة لعيسى فنقرأ فى سورة "آل عمران": "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ... (49)"، وفى سورة "الصف": "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)".
وأما وصفه تعالى لعيسى بأنه "غلام زكىّ" فهو نفسه ما وُصِف به "الغلام" الذى قتله العبد الصالح فى قصة سورة "الكهف"، إذ وُصِف بأنه "نفسٌ زكيّة": "فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)". فما الفرق إذن مما يعطى للواعظ الحق فى الطنطنة التى يطنطنها؟ إن كل الأطفال يولدون أطهارا أنقياء كلهم أجمعين أكتعين أبصعين، حتى الذين سيصيرون فيما بعد من عتاة المجرمين والقتلة والجبارين المستبدين والزناة العاهرين. أم هناك من يجادل فى ذلك؟ ولهذا يقال: الأطفال أحباب الله! أما لماذا وصف الله عيسى هنا بأنه غلام زكى ما دام الأطفال كلهم يولدون دون خطيئة كما هو معروف، إذ ينزلون من بطون أمهاتهم، ونفوسهم وقلوبهم صفحات بيضاء، علاوة على أنهم عند مولدهم يكونون خالين من الإرادة، خيرا كانت هذه الإرادة أو شرا، ومن ثم لا يمكن نسبة الشر إليهم، فالجواب على ذلك هو أن قول روح القدس لمريم حسبما ورد فى السورة المسماة باسمها الكريم: "إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (17)" هو رد على ما كانت قد قالته له تصده عنها خشية أن يكون رجلا من الرجال جاء للاعتداء على عِرْضها والزنا بها رغم أنفها، وهو: "إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)". فكان رده ذاك تطمينا لها أنه ليس بشرا، وأنه لم يأت للاعتداء عليها، وأن الغلام من ثم سيولد ولادة طاهرة، أى أنها ستُرْزَقه من الحلال لا من الحرام. ومعروف أننا لكى نفهم الكلام لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار السياق الذى قيل فيه هذا الكلام، وإلا أخطأنا معناه كله أو بعضه أو الظلال المحيطة به. وهذا هو سياق تلك العبارة التى وردت على لسان روح القدس كاملا: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)". ولنلاحظ أن رد الملاك عليها حين استغربت أن يكون لها ولد دون أن تعرف أحدا من الرجال هو نفس الرد على زكريا عندما بُشِّر بأنه سيولد له ولد رغم تقدمه فى العمر ورغم عقم زوجته، إذ سألت مريم روح القدس قائلة: "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا"، فأجابها بقوله: "كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ"، وهو ما أجيب به زكريا قبيل ذلك فى نفس السورة: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... (9)". وانظر الآيتين 40، 47 من سورة"آل عمران" ففيهما نفس المعنى، وهو ما يدل على أن مولد المسيح، رغم كل شىء، لا يختلف عن مولد واحد كيحيى. وبالمثل نبَّه القرآن أيضا فى الآية التاسعة والخمسين من سورة "آل عمران" إلى أنه لا يختلف عن خلق آدم. أى أنه لا ربوبية فيه عليه السلام بأى معنى من المعانى، إنما هو عبد لله مثل بقية العباد.
ولنفترض بعذ هذا كله أنه "غلامٌ زَكِىٌّ" بالمعنى الذى فهمه الواعظ النصرانى، فهل معنى هذا أن الغلام الزكى لا يجوز عليه الخطأ قط؟ ترى لو قلنا إنه فلانا ذكىٌّ أو وقورٌ أو مُجِدٌّ، أيكون معنى هذا أنه هكذا فى كل صغيرة وكبيرة وفى كل لحظة؟ لا، بل المقصود أن هذا هو الغالب عليه وأنه لا يحيد عن هذا إلا على سبيل الاستثناء. وقد بينا أنه عليه السلام كان ينفعل ويلعن ويشتم، ويتحدث إلى أمه فى لهجة خشنة لا احترام فيها، ويأكل من الحقول دون إذن أصحابها، كما كان ينظر إلى نظافة اليد والفم قبل الأكل على أنها أمر معيب، مؤكدا أن الأفضل تناول الإنسان طعامه دون غسل يديه أو فمه... إلخ حسبما كتب مؤلفو الأناجيل، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدق كثيرا مما ينسبه إليه أولئك المؤلفون من تصرفات خاطئة لا تليق برسل الله، صلوات الله عليهم أجمعين! وحتى لو قبلنا أنه كان إلها كما يقولون، فالرد هو أنه لم يكن إلها نقيا، بل كان إلها متجسدا فى هيئة إنسان، ومن ثم كان مهيأ للخطإ بين الحين والحين بصفته الإنسانية مثلما كان يخضع للجوع والعطش والحاجة إلى دخول الحمام، ومثلما كان يقلق ويحزن ويغضب ويجزع من الألم لذات السبب! بل حتى لو قلنا إن "الزكىّ" هو الذى لا يرتكب خطيئة قط، فالواقع أن هذا ليس خاصا بعيسى وحده صلى الله عليه وسلم. كيف ذلك؟ الجواب نأخذه من النص التالى الذى يتحدث فيه المسيح ذاته، وليس أحدا سواه، عن الدماء الزكية بين البشر بوصفها شيئا كثيرا غير موقوف عليه وحده، وهو موجود فى الإصحاح الخامس والعشرين من متى: "29وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ، 30وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ. 31فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. 32فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. 33أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ 34لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ، 35لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ". وقد تكررت فى الكتاب المقدس تلك العبارة أو ما يشبهها، ومنها ما نقرؤه فى الإصحاح السادس والعشرين من سفر إرميا من تحذير ذلك النبى لقومه من الإقدام على قتله لمجرد أنه بلغهم رسالة ربه بما ينتظرهم من دمارٍ جراء عصيانهم وكفرهم واصفًا دمه الذى سيريقونه عندئذ بــ"الدم الزكىّ": "15لكِنِ اعْلَمُوا عِلْمًا أَنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي، تَجْعَلُونَ دَمًا زَكِيًّا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى سُكَّانِهَا، لأَنَّهُ حَقًّا قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ إِلَيْكُمْ لأَتَكَلَّمَ فِي آذَانِكُمْ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ»".
ثم لقد تكرر فى القرآن المجيد الكلام عن تزكِّى هذا الشخص أو تزكيته بوصفه أمرا ممكنا جدا وليس فيه شىء خارق: ففى سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)"، وفى سورة "الليل": "فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20)". بل إن القرآن ليذكر أن النبى عليه السلام يزكّى الآخرين، أى يمنح الناس زكاة النفوس. قال تعالى فى سورة "البقرة": "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)"، وفى سورة "آل عمران: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)"، وفى سورة "التوبة": "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)"، وفى سورة "الجمعة": "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)". ثم إن فضل القرآن على عيسى عليه السلام لهو فضل عظيم، فهو الكتاب الوحيد الذى برّأ مريم عليها السلام مما شنّع اليهود به عليها وافْتَرَوْا على عرضها الافتراءات النجسة مثلهم، ووسمو ابنها بالجنون والسحر، فتصدى القرآن لهم ومجّدها وابنها أيما تمجيد، وإن لم يَعْدُ بهما رغم هذا حدود البشرية والعبودية لله الواحد الأحد، وكفّر من يؤلههما تكفيرا.
ويقول الواعظ النصرانى إنه "لا فرق بين رسالة عيسى وسلوكه، إذ عاش ما قاله، وثبت بلا لوم وبدون خطية"، إلا أن كتبة الأناجيل لهم، فيما يبدو، رأى آخر، إذ ذكروا مثلا أنه كان مارا هو وتلاميذه بحقل من الحقول، فانقضوا عليه يأكلون ملء بطونهم دون إذن من صاحبه الذى كان غائبا! وبالإضافة إلى ذلك نجده، صلى الله عليه وسلم، يأمر أحد الرجال أن يذهب إلى إحدى الحظائر ويأخذ الأتان المربوطة هناك ويأتيه بها دون إذن من صاحبها، كى يركبها عند دخوله القدس! كما أن أولئك الكتبة يجعلون أول معجزة يجريها عليه السلام هى تحويل الماء إلى خمر، أى استبدال شراب الشيطان بشراب الفطرة! وهناك موقف غير مقبول البتة نسبوا إليه فيه احتقار امرأة كنعانية أو فينيقية احتقارا مزريا غير إنسانى بالمرة، إذ أتته تلك المرأة ليشفى لها ابنتها، بيد أنه رفض لأنها، كما قال، غير إسرائيلية، وهو لم يُبْعَث إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة، وقال لها فى تجبر وتكبر مهين إن الطعام الذى يحتاجه الأولاد يحرم على الكلاب، فما كان منها إلا أن قالت فى لهفة وحرقة وذلة ضارعة كى تنقذ ابنتها إن للكلاب أيضا نصيبا من الفتات المتساقط من المائدة تحت الأرجل، فعندئذ وعندئذ فقط رضى أن يشفى لها ابنتها، مع أن الشفاء لم يكن يكلفه شيئا ولا يقتضيه نَصَبًا، فهو معجزة ربانية يجريها الله على يديه دون أى مجهود! وهناك إلى جانب هذا وذاك وذلك شتائمه المجلجلة لليهود ولعنه لهم وقلبه موائدهم فى الهيكل واستخدام السوط فى إخراجهم منه، ونفيه الإيمان فى أكثر من مناسبة عن تلاميذه، و بالذات بطرس، وجفاؤه فى كلامه إلى أمه وعنها كما تقدمت الإشارة. فأين قوله الشهير عن محبة أعدائنا ومباركة لاعنينا وإدارة الخد الأيسر لمن يصفعنا على الخد الأيمن وترك الإزار بالمرة لمن يَغْصِبنا الرداء حتى نمشى فى الشوارع عرايا تماما وبلابيص نستعرض عوراتنا وسوآتنا مباهين بها؟ واضح أن هناك فجوة هائلة بين المبدإ والتطبيق ينفى صحة كل ما قاله الواعظ عن التطابق التام بين الدعوة والسلوك عنده عليه السلام. وليس هذا الكلام من لَدُنّا، بل من الأناجيل نفسها، وكل دورنا منحصر فى الإشارة إلى ما فيها هى دون تدخل من جانبنا، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدق ما يقال عنه صلى الله عليه وسلم مما يسىء إلى صورته الكريمة.
وفى إنجيل الطفولة (THE ARABIC GOSPEL OF THE INFANCY OF THE SAVIOUR ) نُلْفِى الغلام عيسى يتصرف تصرفات مخيفة تدل على قسوة وغلظة وشراسة تتناقض مع ما يدعيه الواعظ النصرانى له صلى الله عليه وسلم. وليس المسلمون هم الذين كتبوا هذا الإنجيل، بل بعض النصارى الذين أردوا تمجيده عليه السلام والزعم بأنه إله: فمن ذلك أنه، عندما ضرب أحد صبيان اليهود الغيورين على السبت بركة الماء الصغيرة التى صنعها عيسى بيده فى ذلك اليوم المقدس عند اليهود للعب عندها وشكّل بعض التماثيل الطينية حولها كما يفعل الأطفال، قام عيسى بتجفيفه وإماتته عقابا له على ضَرْبه بقدمه الحوض الصغير وتجفيف مائه، مع أن الخطأ الذى ارتكبه هذا الصبى اليهودى ليس بالخطإ الجسيم، بل هو من وجهة نظر المتدينين باليهودية، وعيسى لم يأت بنص كلامه لينقضها بل ليكملها، إنما هو عمل محمود. فما القول فى هذا؟ وكيف يمكن الادعاء إذن بأنه، عليه السلام، كان مثالا للوداعة والتسامح وطيبة القلب والعطف على ضعف البشر؟ وهَبْ أن ذلك تصرف خاطئ من الصبى اليهودى، أكذلك تكون عقوبة ذلك الخطإ الهين، إن صح تسميته خطأ أصلا؟ ومن ذلك أيضا أن طفلا اصطدم به فى الطريق دون قصد وهو يجرى فأوقعه، فما كان منه إلا أن توعده أنه سيقع فى الأرض كما أوقعه وأنه لن يقوم من سقطته ثانية. وقد كان، إذ وقع الولد ميتًا فى الحال! فيا للتسامح والصبر والمرحمة! أترى ينبغى أن نعلل ذلك بأنه لم يكن وقتئذٍ إلها ناضجا عنده خبرة تساعده على الفهم والتسامح؟ لكنْ هل الآلهة تكبر وتنضج، وفى خلال ذلك تنقصها الخبرة مثلنا وتتخذ قراراتها فى عصبية وقسوة وضيقِ عَطَنٍ كصبيّنا الإله؟ يا لها من ألوهية هزيلة! وهاتان هما القصتان كما قرأتهما فى الترجمتين الإنجليزية والفرنسية لذلك الإنجيل:
A- "46. Again, on another day, the Lord Jesus was with the boys at a stream of water, and they had again made little fish-ponds. And the Lord Jesus had made twelve sparrows, and had arranged them round His fish-pond, three on each side. And it was the Sabbath-day. Wherefore a Jew, the son of Hanan, coming up, and seeing them thus engaged, said in anger and great indignation: Do you make figures of clay on the Sabbath-day? And he ran quickly, and destroyed their fish-ponds. But when the Lord Jesus clapped His hands over the sparrows which He had made, they flew away chirping. Then the son of Hanan came up to the fish-pond of Jesus also, and kicked it with his shoes, and the water of it vanished away. And the Lord Jesus said to him: As that water has vanished away, so thy life shall likewise vanish away. And immediately that boy dried up. 47. At another time, when the Lord Jesus was returning home with Joseph in the evening. He met a boy, who ran up against Him with so much force that He fell. And the Lord Jesus said to him: As thou hast thrown me down, so thou shall fall and not rise again. And the same hour the boy fell down, and expired".
B-" XLVI. - Un autre jour, le Seigneur Jésus se trouvait encore avec des enfants sur le bord de l'eau, et ils avaient détourné l'eau de ce ruisseau par des fossés, se construisant de petites piscines; et le Seigneur Jésus avait fait douze moineaux, et les avait arrangés, trois de chaque côté, autour de sa piscine. Or, c'était un jour de sabbat; et le fils du Juif Hanani, s'approchant et les voyant agir de la sorte: Est-ce ainsi, dit-il, qu'un jour de sabbat vous faites des figures de terre? Et accourant promptement, il détruisait leurs piscines. Mais lorsque le Seigneur Jésus eut frappé des mains sur les moineaux qu'il avait faits, ils s'envolaient en criant. Ensuite le fils d'Hanani s'approchant aussi de la piscine de Jésus pour la détruire, son eau s'évanouit, et le Seigneur Jésus lui dit: Comme cette eau s'est évanouie, de même votre vie s'évanouira; et sur-le-champ cet enfant se dessécha. XLVII. - Dans un autre temps, comme le Seigneur Jésus retournait le soir à la maison avec Joseph, il fut rencontré par un enfant qui, courant rapidement, le heurta et le fit tomber. Le Seigneur Jésus lui dit: Comme vous m'avez poussé, de même vous tomberez, et ne vous relèverez pas; et, à la même heure, l'enfant tomba et expira".
بل إنه حين بلغه مقتل أستاذه ومُعَمِّده يحيى عليه السلام نجده، حسبما يذكر مؤلفو الأناجيل أيضا، ينصرف إلى البَرِّيّة هو وتلاميذه دون أية مبالاة حيث قَضَوْا هناك وقتا يأكلون ويشربون خفيفى النفوس والضمائر لم يذرفوا عليه دمعة، وكأن شيئا لم يحدث! وفوق كل هذا فإن الشيطان قد طمع فيه وفى إغوائه، فقاده هنا وههنا وأخذ يتنقل به من رأس الجبل إلى قلب البرية إلى قمة المعبد طالبا منه هذا وذاك من المطاليب الغريبة المخالفة للإيمان مما يقول النصارى عنه إنه كان تجريبا من الشيطان له! فكيف بالله يطمع إبليس فيه كل هذا الطمع؟ أترى أبا الشياطين كان قد طعن فى السن وضعف بصره فلم يعد يميز المرئيات ولم يدرك أنه إنما يتعامل مع الله نفسه لا مع واحد من البشر؟ فكيف لم ينبهه الرب ويقول له: "يا أخى، خَلِّ فى وجهك حصاة ملح، فهذا عيب لا يليق"، ثم يصفعه قلمًا على وجهه يجعل عينيه تطقّان شررا، وحينئذ يعرف أن الله حق ولا يعود لمثلها أبدا؟ بل كيف يطيع هو أبا الشياطين ويتبعه أينما أخذه وحيثما ساقه؟ بل كيف يصرح عليه السلام بأنه ما جاء لينقض الناموس، ثم ينقض على الناموس فى التو واللحظة ناسخًا هذا التشريع أو ذاك من التشريعات التى أتى بها موسى؟ وكل ذلك معروف لمن قرأ الأناجيل، ولسنا نحن المسلمين الذين قلنا هذا، بل كتبة العهد الجديد. وقبل ذلك كله فإنه، عليه السلام، قد خالف أشد المخالفة أساس دينه وجوهره والمحور الذى يحور هذا الدين إليه ويدور عليه، وذلك حين وضعه أعداؤه على الصليب طبقا لما ورد فى الأناجيل لا لما نؤمن نحن المسلمين به، إذ يعتقد النصارى أنه، عليه الصلاة والسلام، قد جاء ليفدى البشر جميعا (البشر جميعا لا بنى إسرائيل، الذين تكرر منه القول بأنه إنما أتى لهم وحدهم، ولكى يعلّمهم لا ليكفّر عنهم خطيئاتهم ولا يحزنون!)، لكننا ننظر فنراه يجزع قبلها ويقلق ويملؤه الهم والكرب، وفوق الصليب يصرخ ويجأر مستغيثا ولامغيث، بما يفيد أنه نسى مهمته التى نزل من أجلها على الأرض أو على الأقل: لم يستطع أن يرتفع إلى مستواها. ومعنى هذا أن سلوكه لم يكن مطابقا لما ينادى به. فإذا أضفنا ما يقوله النصارى عن ربوبيته تبين لنا أن الطامة أفظع وأفدح، إذ معنى ذلك أن هذا الرب أضعف من أن يتجنب الخطأ، مع أنه هو الذى خلق، فيما خلق، الخطأ، وكان يستطيع أن يعفى نفسه من اجتراح هذا الخطإ، وأضعف كذلك من أن يتحمل العذاب والألم، مع أنه هو الذى خلق، فيما خلق، العذاب والألم، وكان يستطيع أن يعفى نفسه من الشعور بذلك العذاب والألم، وهذا إن كان الآلهة يخطئون ويألمون ويتعذبون. وعلى يد من؟ على يد المجرمين من مخلوقاتهم! عجبا! وبالمناسبة فمن المسلمين الأوائل والأواخر من تعرضوا لمثل هذا التعذيب وتحملوه وراحوا ضحيته دون طنطنة كهذه من زملائهم ومحبيهم!
وبالمناسبة أيضا فإننا لم نكن لنحب أن نعقد مثل هذه المقارنة، ونعتقد أن الرسول الكريم ما كان لينشرح صدره بمثل هذا الكلام، لولا... نعم لولا أن بعض النصارى يتحدَّوْن المسلمين بهذه المقارنة: فتجد مثلا هذا الكتاب الذى نحن بصدده الآن منشورا فى المواقع النصرانية المختلفة، كما أن بعض القمامصة المناكيح يستفزوننا فى رسائلهم المشباكية للرد عليه وعلى أمثاله، مع التهور السفيه فى التباذؤ بحق الرسول الكريم، وإن كان مؤلفو هذا الكتاب (وهذه شهادة حق) حريصين على ألا ينزلوا إلى هذا المستنقع المنتن، وهو ما نحمده لهم ويظهر أثره فى ردنا عليهم كما لا بد أن القراء قد لاحظوا. فنحن إذن مضطرون إلى الرد على مثل تلك الاستفزازات والتحديات بين الحين والحين حتى لا يظن القراء الذين لا يحيطون بالأمر من جميع جوانبه أنه تحدٍّ صعب، مع أنه كما يرون بأنفسهم الآن ليس فيه من الصعوبة قليل أو كثير، وإن كنت أشعر بشىء من الحرج لما أسببه من ألم دون قصد لبعض الأصدقاء النصارى الذين يكاتبوننا ويبادلوننا المودة لأن هذا الكلام لا بد أن يكون له تأثير غير طيب فى نفوسهم مهما كانت سعة صدروهم وعقولهم. لكننا نعتمد رغم ذلك على حسن إنصافهم، فالهجوم على سيد المرسلين قد أضحى شغلة كل سافل لا شغلة له ولا مشغلة، وبخاصة القمص المنكوح الذى يمطرنى كل قليل بطوائف من الكتب يتحدانى أن أرد عليها جميعا، وكلما فَنَّدْتُ له بعض ما يرسله من سخافات وجهالات ولم أترك فيه قطعة متصلة بقطعة أخرى على مدى عشرات الصفحات فى منطق محكمٍ باترٍ قال ببساطة دون أن يكلف نفسه الرد على شىء مما كتبناه: دعنا من هذا وتعال إلى شىء آخر، أو إن هذا الذى كتبتَه لا يقنعنى. هكذا فى "كلمتين وبَسْ"، وكان الله يحب المحسنين! فنرجو من هؤلاء الأصدقاء أن يعذرونا ولا يظنوا أننا مغرمون بإيلامهم، بل كل ما هنالك أننا نرد على بعض هذه التحديات التى أشرنا إليها، بعضها فقط مما نرى أنه يغنى عن الباقى، وليس كلها، وإلا فلن نفرغ من الكتابة والكلام، ولن نستطيع رغم ذلك أن نغطى ولا واحدا على الألف مما يُطْرَح من استفزازات. كما أن الطرف الآخر لا يجشم نفسه الرد على ما نقول، وإذا فعل فإنه يلجأ إلى الكذب والافتراء والتلاعب بالنصوص، ولا يفصّل القول تفصيلا كما نفعل نحن دائما بحيث لا نترك ثغرة فى الموضوع دون أن نسدها فلا تبقى فاغرةً كدبر القمّص المشروم! سلامات يا قمّص!
ومما يحاول الواعظ النصرانى أن يميز به بين السيد المسيح وزملائه الأنبياء قوله: "يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة، ويذكر الأخطاء لبعضهم ما عدا المسيح، فكان دائمًا بريئًا وطاهرًا". ولقد كنا نود لو أنه ذكر الخطايا التى ادعى أن القرآن سجلها على الأنبياء، لكنه لم يفعل، وهو لم يفعل لأنه لا يذكر الحقيقة، لا نقول: كذبا منه وبهتانا، بل نقول: نسيانا منه أو خلطا بين القرآن والكتاب المقدس، الذى ينسب لهم كل طامّة وطامّة من النوع الثقيل الذى لا يحتمل، وكأن الأنبياء والرسل هم عصابة من المجرمين العتاة: فمنهم القاتل، ومنهم الزانى، ومنهم السِّكّير، ومنهم المخادع، ومنهم مُضاجِع المحارم، ومنهم المشارك فى الوثنية، ومنهم المُهَـئُِّ جوها ومباركها لمن يريد ممارستها من زوجاته، ومنهم من يَنْظِم الغزل الشهوانى الفاجر الداعر، ومنهم من يجدّف فى حق الله... وهلم جرا، بخلاف القرآن، الذى لم يذكر شيئا إلا عن موسى حين قتل المصرى عن غير عمد واستغفر ربه فى الحال فغفر له جل وعلا، وإلا ما قاله فى حق ذى النون عندما ضاق ذرعا بقومه يأسا من صلاح حالهم فتركهم ومضى، فكانت النتيجة أن التقمه الحوت حيث بقى فى بطنه يعانى بُرَحاء الهم والكرب إلى أن تجلى الله عليه برحمته. وهذه أو تلك، كما نرى، ليست خطيئة، إذ إن قَتْل المصرى لم يكن مقصودا، بل كان على سبيل الخطإ، وتدارَك موسى الأمر فى الحال فاستغفر ربه من أعماق قلبه نادما مرتجفا مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم عازما على أن يكون أكثر تنبها فى المرات القادمات وألا يكون ظهيرا للكافرين البتة. وكان الله عند حسن ظنه به فغفر له لمعرفته سبحانه أنه غير ملوم. كما أن ذا النون لم يقترف خطيئة ولا خطأ، بل كل ما وقع منه أنه ترك قومه يأسا منهم بعدما ذاق الأمرين فى دعوتهم إلى دينه دون ثمرة، وكان ينبغى ألا يفارقهم إلا بعد أن يأذن الله له. وهذا كل ما هنالك، فلا خطيئة إذن. ذلك أن الأنبياء والرسل هم صفوة خلق الله الذين اختارهم سبحانه من بين البشر، فلا يعقل أن يكونوا بهذا الخلق الإجرامى المنحط، وإلا فقل: على النبوة العفاء. وهذا منطقى تماما، لأنه إذا كان الأنبياء لا يتميزون عن سواهم من الناس وكانوا قابلين للوقوع فى الجرائم والخطايا (لا الأخطاء التافهة التى لا يمكن البشر الفكاك منها مطلقا) فلا داعى إذن ولا معنى لشىء اسمه النبوة. ولينصرف كل نبى إلى حال سبيله ليصلح من شأنه، وهيهات! وعلى هذا فسكوت القرآن عن ذكر خطايا عيسى لا يعنى أنه انفرد من بين إخوانه الرسل بهذا، بل هذا هو موقف القرآن منهم جميعا بوجه عام.
ونعود، كما وعدنا، إلى قول واعظنا عن النبى محمد عليه الصلاة والتسليم: "لما كان محمد فتىً أتى إليه ملاكان وطهرا قلبه. وفي هذا يقول القرآن: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ - سورة الانشراح 1- 3. ومنذ ذلك الوقت أصبح له اللقب الشريف المصطفى فلم يكن صافيًا وطاهرًا في ذاته، إنما أخذ الملاكان الوزر من قلبه تطهيرًا. لقد احتاج محمد إلى عملية جراحية للقلب لتنقية فؤاده قبل أن يصبح نبيًّا ورسولا لله. اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها. إنما القرآن هنا واضح ويتكلم بصراحة. كان محمد إنسانًا طبيعيًّا مولودًا من والدين طبيعيّين، فعاش حياة الفِطرة، وأخطأ مثلنا واستغفر ربه عن ذنوبه وخطاياه. أما المسيح فوُلد من روح الله، وهو كلمة الله المتجسِّد، وعاش قُدّوسًا وطاهرًا منذ حداثته".
ونبدأ بتفسير الواعظ لقوله تعالى: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ"، الذى فسره بأن الملاكين قد جاءاه وهو صبى صغير فى كَنَف حليمة السعدية حسبما يروى بعض كتاب السيرة، فاستخرجا قلبه وغسلاه وطهراه وأعاداه مكانه الأول. والحق أنه لو كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن محمدا قد تم تطهيره قبل أن يرتكب أى خطإ، ومعنى هذا بدوره أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن حظا من أخيه عيسى، الذى ظل دون عماد (أى ظل يعيش فى كنف الخطيئة) إلى أن تجاوز الثلاثين حسب كلام كتاب الأناجيل. ذلك أن التعميد فى النصرانية إنما هو لتطهير المتعمِّد من الخطايا ومساعدته على التوبة. وهذا واضح تماما من النص التالى الذى ننقله من بداية الإصحاح الثالث من إنجيل متى: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ 2قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. 3فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. 5حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، 6وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 7فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ:«يَاأَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. 9وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. 10وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 12الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ».13حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. 14وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» 15فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. 16فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، 17وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»".
وأرجو أن نلاحظ معا كيف أنه لم يتم اعتراف السماء ببنوّة عيسى لله حسب اعتقاد النصارى إلا بعد التعميد، أى بعد أن تم تطهيره وتوبته، أما قبل ذلك فلا. كما أنه، بعد أن وقع التطهير من الخطايا، جاء الشيطان ليجربه فثَبَتَ، من خلال عصيانه لهذا الشرير، أن التعميد قد أتى بمفعوله، وإن لم يمنعه هذا من اللامبالاة فيما بعد بالقبض على يحيى (أستاذه ومعمِّده) وحبسه وقتله، إذ انطلق هو وحواريوه بعد قطع رقبة يحيى عليه السلام إلى البرّية يأكلون ويشربون دون أن يذرفوا عليه دمعة أو يقولوا عنه كلمة تدل على أنه محط اهتمامهم، وكأن يحيى لم يُجْزَرْ على مقربة منهم شرَّ جَزْر! كما أن تعميده، عليه السلام، لم يمنعه مثلا من توضيح أنه ما جاء لينقض الناموس (الذى أكد أنه لن يزول حرف واحد أو حتى نقطة على حرف منه إلى أن تزول السماوات والأرضون، أى إلى يوم القيامة)، لينقضّ فى الحال على عدد من أحكامه فيلغيها إلغاء كما هو مسجل فى الإصحاح الخامس من متى، مناقضا بذلك نفسه مناقضة لا يمكن تسويغها بأى حال، ومدينا نفسه إدانة لا تغتفر حسب كلامه هو ذاته، إذ قال إن من ينقض أحد أحكام ذلك الناموس يكون أصغر فرد فى ملكوت السماوات: "17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. 20فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ". وهذه خطيئة، وأى خطيئة! كذلك فإنه، عليه السلام، فى الوقت الذى شدد فيه على تلاميذه أنه يجب عليهم أن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم ولا يكتفوا بحب من يحبونهم فقط، نراه عقب ذلك فى نفس الخطبة يلتفت إليهم وإلى من تبعه من الجموع متهما لهم بقلة الإيمان (متى/ 6/ 31، و8/ 26)، ومناديا كل واحد منهم بــ"يا مرائى" (7/ 5)، وواصفا إياهم بأنهم "أشرار" (7/ 11). وقد تكرر منه هذا وأشباهه وأشد منه فى مواضع مختلفة من الأناجيل كما نعلم جميعا. ثم إنه كان يصلى ذات مرة فسأله أحد تلاميذه أن يعلمهم كيف يصلون فعلمهم الصلاة على النحو التالى كما فى الإصحاح الحادى عشر من إنجيل لوقا: "1وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَارَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ:«مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 3خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، 4وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ»"، فما معنى أمره لهم بأن يقولوا مثله: "وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا"؟ معناه أنه كان يطلب من الله أن يغفر له خطاياه. وعلى كل فقد حسمها المسيح عليه السلام عندما صرح قائلا: "11اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (متى/ 11). أى أن يحيى، حسب حكمه هو، أفضل منه. أليس عيسى واحدا من الذين ولدتهم النساء؟ كذلك حسمها عليه السلام عندما "18سَأَلَهُ رَئِيسٌ قِائِلاً:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 19فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ" (لوقا/ 18).
والآن ما هى الذنوب التى ارتكبها محمد عليه الصلاة والسلام فى نظر واعظنا الموقَّر؟ لنتركه يقول ما عنده بنفسه: "اعترف محمد شخصيًا ثلاث مرات في القرآن بأن كان يجب عليه استغفار ربه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار- غافر 55. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ- محمد 19. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً- الأحزاب 37. ويظهر أن أكثرية المسلمين يرفضون هذه الحقيقة ويؤولونها". هذا ما قاله الواعظ، والآن إلى القارئ الكريم تعليقنا على هذا الذى قاله: فأولا محمد عليه الصلاة والسلام لم يعترف فى القرآن بشىء، بل هو كلام الله لا كلام الرسول. وثانيا ما هى يا ترى تلك الذنوب التى عزاها الواعظ إلى رسول الله تحديدا؟ الواقع أنه لا يوجد شىء من هذا القبيل على الإطلاق، فلا الرسول قد زنى مثلا ولا أراق دما زكيا ولا كذب على أحد ولا حقد عليه ولا أوقع بين أحد من البشر ولا تهاون فى تبليغ الدعوة التى كُلِّف بها ولا حاد عنها وقَبِل من الوثنيين وثنيتهم ولا شرب خمرا ولا سرق ولا استبد بالناس وروّعهم ولا أجحف بحقوقهم ولا ولا ولا مما لم يترك مؤلفو الكتاب المقدس أحدا من الأنبياء إلا زَنُّوه بشىء منه أو أكثر كما يعرف كل من قرأ ذلك الكتاب، وإلا فليدلّنا الواعظ النصرانى على أى مصدر يقول إن الرسول قد أتى أمرا من هذه الأمور! الحق أنه لا يوجد شىء من ذلك لا فى القرآن ولا فى الأحاديث ولا فى كتب السيرة والتاريخ.
إن استغفار الإنسان ربه إنما هو دليل الإيمان القوى به والخشية الشديدة منه والرجاء الكبير فيه سبحانه، وليس شرطا حينئذ أن يكون قد اجترح إثما، بل يمكن جدا أن يكون، كما فى حالة الرسول محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، قد اجتهد فلم توافقه السماء على اجتهاده، كما حدث مثلا حين أتاه أحد المسلمين وهو يحادث بعض الكفار العتاة فى جلسة هادئة رجا منها أن يكونوا أفضل إنصاتا، ومن ثم أحرى أن يهتدوا إلى الحق بعيدا عن مؤثرات الجماهير وأصوات العصبية، فبان فى وجهه صلى الله عليه وسلم شىء من عدم الارتياح ظنا منه أنه سيفسد جو الجلسة التى لم يكن يطمع فى أفضل منها، فنزل القرآن معاتبا له عليه السلام. فإن شئت أن تأخذ بما يقوله بعض المفسرين من أن الكلام فى الآيات موجه له فليكن، فهذا كل ما يمكن أن يقال عن الذنب الذى وقع منه صلى الله عليه وسلم مما ينبغى أن يستغفر ربه منه، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما يقال. وهو، كما نرى، أمر من التفاهة بمكان، لكن الرسول إنما يحلق فى أفق آخر لا نظير له فى السمو والسموق، فكان لا بد من الاستغفار. وهذا إن أخذنا بذلك التفسير، ولم يكن الانتهار موجها إلى أحد الكفار الحاضرين لا إليه صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض العلماء الآخرين.
أما مسألة زينب وزواجه صلى الله عليه وسلم بها فلنفترض أسوأ ما يمكن أن يكون قد حصل، وهو أنه عليه السلام قد رآها فوقعت فى نفسه وأحبها، فما الذى حدث عندئذ؟ الذى حدث هو أنه صلى الله عليه وسلم كتم هواه، ولم يستجب للعرض الذى عرضه عليه زيد زوجها بأن يطلقها ليتزوجها هو. فما وجه الخطإ هنا؟ هل يلام عليه السلام فى شىء لا مسؤولية فيه عليه؟ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولا تدخل فى سلطان صاحبها ولا تخضع لسيطرته، ومن ثم فلا ملام عليه فيما يشعر به فى مجال المشاعر والعواطف، والمهم ألا يستجيب لدواعى الشهوة فينغمس فى الحرام أو على الأقل: فيما لا يليق. فهل صدر عنه صلى الله عليه وسلم شىء من هذا؟ لا ثم لا ثم لا. فما المشكلة إذن؟ وهذا إن كان الأمر كما افترض بعض من يظنون أنهم يستطيعون الإساءة إليه، وسايرتُهم أنا فيما افترضوه.
لكن الحكاية الحقيقية تختلف عن هذه تماما، إذ كانت العلاقة بين زيد وزوجته يسودها التوتر منذ البداية لأنها كانت تشعر أنها من أعز قبيلة عربية، وهى قبيلة قريش، بينما زيد من قبيلة بنى كلب المغمورة، فضلا عن أنه خَبَرَ الرِّقّ فى بعض أطوار حياته، فكان زيد يخبر النبى بأنه لم يعد يرى فى الاستمرار فى الزواج أى معنى، لكن النبى كان يَثْنِيه عن عزمه هذا، على حين تريد السماء منه أن يتزوج زينب بعد تطليق زيد لها حتى يقضى على التقليد الغريب الذى كان يرى فى الابن المتبنَّى نفس حقوق الابن الطبيعى وما يترتب على وضعه من أحكام تشريعية وأوضاع اجتماعية، وهو ما كان النبى يخشاه، خوفا من انتقاد المنتقدين وتشنيع المشنّعين. وهنا نزلت الآية الخاصة بذلك الموضوع من سورة "الأحزاب" والتى تعاتبه على أنه يخشى الناس والله أحق أن يخشاه. وتمامها: "فلما قضى زيدٌ منها وَطَرًا (أى تزوجها ونال منها ما يناله الرجل من زوجته) زوّجْناكها لكيلا يكون على المؤمنين حَرَجٌ فى أزواج أدعيائهم إذا قَضَوْا منهن وَطَرًا". فواضح من الآية أنه لا علاقة بينها وبين ما يتقوله المتقولون على النبى عليه السلام مما لا مطعن فيه مع ذلك عليه، بل له الشرف كل الشرف أنْ استطاع أن يكتم مشاعره ولم يسمح لها بالاشْرِئْباب رغم ما عرضه عليه زيد من تطليق زينب كى يتزوجها عليه السلام. نخرج من هذا كله بأن أقصى ما يمكن أن نتصور وقوعه منه صلى الله عليه وسلم مما استوجب استغفار ربه هو تصرفه نحو ابن أم مكتوم حين عبس وتولى بوجهه رجاء أن ينصرف ويأتيه فى وقت آخر لا يكون حاضرا فيه ذلك النفر من المشركين الذين كان يطمع فى حسن إصغائهم لما يقول وإيمانهم به، على حين يستطيع ابن أم مكتوم أن يطرق بابه فى أى وقت آخر ليسأله عما يريد. أما هؤلاء المشركون فنادرًا ما كانت تتاح له معهم مثل تلك الفرصة السانحة! وهذا، بكل يقين، أقل بكثير مما ذكرنا وقوعه من المسيح عليه السلام.
* تلقى محمد الوحي بواسطة الملاك جبرائيل الروح الأمين. ورد في الأحاديث الصحيحة أنه كان إذا نزل عليه الوحي يُغْشَى عليه. وفي رواية: يصير كهيئة السكران. يعني: يقرب من حال المغشي عليه لتغيّره عن حالته المعهودة تغيّرًا شديدًا حتى تصير صورته صورة السكران. وقال علماء المسلمين إنه كان يُؤخذ من الدنيا. وعن أبي هريرة: كان محمد إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة. وفي رواية: كرب لذلك وتربَّد له وجهه وغمّض عينيه، وربما غطّ كغطيط البكر. وعن عمر بن الخطاب: كان إذا نزل عليه الوحي يُسْمَع عند وجهه كدويّ النحل. وسُئل محمد: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّ عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال . وأجمع علماؤهم على أن محمدًا كان يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقًا في البرد كأنه الجُمَان، وربما غط كغطيط البكر، محمرة عيناه . وعن زيد بن ثابت: كان إذا نزل الوحي على محمد ثقل لذلك. قال: ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئًا أثقل من فخذ محمد. وربما أُوحِيَ إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينقسم، وربما بركت . فالله لم يكلم محمدًا شخصيًّا، بل أوحى له بواسطة الملاك جبرائيل فقط، فكان الله بعيدًا عنه حتى أثناء الإيحاء. لم يرسل الله الملاك جبرائيل إلى المسيح البتَّة، ولم يتقبل المسيح وحيًا بواسطة شخص ثالث، لأنه كان نفسه قول الحق المتجسد- سورة مريم 19:34، وكلمة الله الأزلي، وروحًا منه، منبثقًا من الله نفسه عارفًا إرادته. فإن أراد أحد أن يتعمق في مشيئة الله فليدرس سيرة المسيح لأنه كلمة الله القدير المتجسد. يخبرنا القرآن أن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ- آل عمران 3. فلم يتكلم إلا بكلام الله، وكان ينطق حسب القرآن بالوحي فورًا بعد ولادته معزيًا أمه ومرشدًا إياها: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا- سورة مريم 24- 26. لقد تكلم المسيح حسب القرآن بكلمة الله وهو طفل بغير حاجة إلى ملاك أو وسيط لأنه كان فم الله وروحه ووحيه شخصيًا. لذلك عملت قوة الله في ابن مريم ظاهرة في الخلق والشفاء والغفران والتعزية والتجديد. إن خلاصة الوحي لمحمد في القرآن والحديث هي الشريعة التي تتضمن الأوامر والنواهي الإلهية: فوحي محمد أتى بكتاب: القرآن والشريعة، أما خلاصة الوحي للمسيح فهي ذاته لأن إنجيله ليس شريعة بل إعلان حياته وأقواله ووصف شخصيته. وقد منح المسيح أتباعه قوة روحه القدوس لإتمام وصاياه. فأتباع المسيح لا يؤمنون بالدرجة الأولى بكتاب ولا بدين ولا يعيشون تحت الشريعة، بل يؤمنون بشخص فريد، ويتعلقون بالمسيح شخصيًّا ويتبعونه. فالمسيح هو وحي الله بالذات.5- الوحي لمحمد والمسيح:
** هذه الفقرة مملوءة باللخبطات والتناقضات والكلام الكبير الذى ليس وراءه طائل: ولنبدأ على بركة الله: أولا الملاك جبريل، أى الروح الأمين حسبما جاء فى كلام الواعظ، هو هو الروح القدس، فقد جاء فى سورة "الشعراء" خطابا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)"، وهو نفسه ما نقرؤه فى سورة "النحل" حيث يقول رب العزة لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)". والآن هل صحيح أن الروح القدس لم يكن له دور فى حياة السيد المسيح كما يزعم الواعظ هنا؟ سأترك "دائرة المعارف الكتابية" نفسها تتولى الجواب على هذا السؤال، إذ نقرأ فى مادة "الروح القدس" ما يلى:
"بدأ عصر الانجيل بتحرك خاص من الروح القدس، فنقرأ عن يوحنا المعمدان السابق للمسيا أنه "من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو 1: 15 و80)، وبوحي من الروح أدرك سمعان الشيخ ظهور المسيا في شخص الطفل يسوع (لو 2: 52)، كما أن الملاك أعلن ليوسف أن الذي حُبِل به في مريم "هو من الروح القدس" ( مت 1: 20)، وبذلك تأيدت العبارة السابقة: "وُجِدَتْ حبلى من الروح القدس (مت 1: 18). وهكذا قال الملاك للعذراء مريم: "الروح القدس يحلّ عليك، وقوة العَلِيّ تُظِلّك. فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى: ابن الله" (لو 1: 35). وعندما كان يسوع في الثلاثين من عمره جاء ليعتمد من يوحنا المعمدان، وكما حُبِل بيسوع بالروح القدس فولد "قُدُّوسا" هكذا نزل عليه، عند المعمودية، الروح القدس "بهيئة جسمية مثل حمامة" إعلانا بأنه المسيا القدوس (مت 3: 16 ، لو 3: 22). ولعل الرسول بطرس كان يشير إلى هذه الحادثة في حديثه الأول للأمم عن "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة" (أع 10: 38 ). ويشير يوحنا إلى ذلك بالقول: "لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله، لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح" (يو 3: 43). وكانت قوة الروح القدس واضحة في حياة يسوع وخدمته، فبعد صعوده من الماء مباشرة أخرجه الروح إلى البرية حيث واجه المجرب (مت 3: 1 – 3، مرقس 1: 12 و13، لو 4: 1 – 3)، وغلبه بقوة الروح القدس باعتباره "آدم الأخير"، أي الإنسان الكامل. وقد نسب الرب قدرته على إخراج الأرواح النجسة إلى الروح القدس (مت 12: 28). وهكذا كان الأمر بالنسبة لتعليمه، فقد مسحه الروح القدس ليبشر المساكين ولينادي للمأسورين بالإطلاق (لو 4: 18). وطوال خدمته هنا على الأرض كان الناس ينبهرون من تلك القوة العجيبة التي له حتى قالوا: "إنه مختل" (مرقس 3: 21)، كما "بهتوا من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان" (مرقس 1 : 21). كما كان يبدو أحيانا متجاهلاً لحاجاته الجسدية (يو 4: 31) حتى قال البعض عنه: "إنه سامري، وبه شيطان" (يو 8: 48). وعندما رجع السبعون من جولة كرازية ناجحة "تهلل يسوع بالروح" (لو 10: 21). وقد يسأل البعض هذا السؤال: إذا كان يسوع هو الله الابن، فلماذا كان في حاجة إلى قوة الروح القدس لإتمام خدمته؟ ويرجع جانب من الجواب إلى ناسوته الكامل الذي أخذه في تجسده، فلم يقلل من ناسوته كونه الله، فلم تحجب قدرته الالهية ناسوته، فهو كإنسان كامل عاش معتمدًا على روح الله. فيسوع، إذ صار إنسانا، كان يعتمد على روح الله الحالّ فيه، ولهذا فهو في تدبير الخلاص أخذ دور المسيا، أي الذي مسحه روح الله، وفي نفس الوقت كان مدركا لسلطانه الإلهي المطلق، فهو لم يكن كسائر الأنبياء، فلم يقل: هكذا يقول الرب، بل: الحق الحق أقول لكم".
ومن هذا النص الذى اعتمد تمام الاعتماد على ما ورد فى العهد الجديد، وبالذات الأناجيل، نرى أن الروح القدس لم يترك عيسى بن مريم بتاتا فى أى أمر من أموره، على عكس ما يقول واعظنا الطيب الذى على نياته (وأكتفى بهذا فلا أصفه بشئ آخر)، حتى إن كاتب المادة يقول بعظمة لسانه: "إذا كان يسوع هو الله الابن، فلماذا كان في حاجة إلى قوة الروح القدس لإتمام خدمته؟"، وهو سؤال لا معنى له إلا أنه المسيح رغم كونه إلها كان بحاجة إلى الروح القدس! فلماذا، يا واعظنا الطيب الذى على نياته، ترى أن نزول روح القدس على سيدنا محمد هو نقصٌ فيه وفى رسالته، وهو الذى لم يدَّعِ يوما ولا ادّعى عنه أتباعه أنه إله أو ابن للإله أو فيه شىء مما يختص به الإله، فى الوقت الذى يحتاج المسيح (الإله أو ابن الإله حسب اعتقادكم) إلى الروح القدس فى كل خطوة من خطواته، وهذا إن كان الآلهة يمشون ويَخْطُون؟ فهل ترى أن محمدا يفترق عن الإله عندكم؟ ولسوف نرى أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل سيتبين أن محمدا، رغم الأخوة التى تربطه بعيسى وكل الأنبياء، قد فضّله الله على جميعهم، بما فيهم عيسى، بأشياء لا يمكن لمن عنده بعض إنصاف أن يمارى فيها. ولْننتظر، فكل شىء بأوانه. ومع ذلك كله فليس نزول الوحى على محمد أو على عيسى عليهما السلام عن طريق الروح القدس معناه أن الله كان بعيدا عنهما، فالله ليس بعيدا عن أى من مخلوقاته، بل هو سبحانه لا يوصف فى الحقيقة بقرب ولا بعد، لأنه فوق الزمان والمكان، إذ هو خالقهما، وهو سبحانه وتعالى أقرب لنا جميعا من حبل الوريد، وهو معنا حيثما كنا، فكيف برسله الـمُصْطَفَيْنَ الأخيار؟ أما أن محمدا عليه السلام كان يعانى عند نزول الوحى فلنعرف أنه على قدر ضخامة المسؤولية يكون العناء، ولم تكن رسالة محمد، كما هو الحال فى دين عيسى طبقا لما نقرؤه فى الأناجيل، بعضا من المواعظ الأخلاقية الخالية من التشريعات والتوجيهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، أو رسالة قبلية أو قومية مؤقتة، بل كانت رسالة شاملة لكل مناحى الحياة، وموجهة إلى البشر جميعا منذ أن نزلت إلى يوم يُبْعَثون.
ونأتى إلى قول واعظنا الطيب الذى على نياته: "لم يرسل الله الملاك جبرائيل إلى المسيح البتَّة، ولم يتقبل المسيح وحيًا بواسطة شخص ثالث، لأنه كان نفسه قول الحق المتجسد- سورة مريم 34، وكلمة الله الأزلي، وروحًا منه، منبثقًا من الله نفسه عارفًا إرادته. فإن أراد أحد أن يتعمق في مشيئة الله فليدرس سيرة المسيح لأنه كلمة الله القدير المتجسد. يخبرنا القرآن أن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ- آل عمران 48". فأما الجزء الأول من كلامه فقد أثبتنا من كلام علماء النصارى فى "دائرة المعارف الكتابية" أنه غير صحيح البتة، وتبقى دعواه بأن القرآن يقول عن عيسى عليه السلام فى سورة "مريم" إنه "قول الحق المتجسد"، فهل هذا صحيح؟ تعالَوْا نقرا معا ما جاء فى تلك السورة:
"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)".
والمعنى، كما يفهمه الناطقون بالعربية، أن ما روته الآيات هنا عن السيد المسيح إنما هو قول الحق لا ما يقوله الممترون المؤلهون له الزاعمون أنه الله نفسه أو ابن الله. أى أن هذا هو وضع عيسى حسب قول الحق لا أن عيسى نفسه هو قول الحق. ومن هنا عقَّبت الآيتان اللتان تليان ذلك بقولهما على لسان عيسى ذاته: "مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)". لكن الواعظ الطيب الذى على نياته يحاول أن يحرف المعنى عن مواضعه، وهيهات! فعيسى ينفى أن يكون الله قد اتخذ ولدا أو يمكن أن يتخذ ولدا، كما يؤكد عليه السلام أن الله هو ربه ورب البشر جميعا وليس أباه، فضلا عن أن يكون هو هو نفسه! ومع ذلك فإن نيافة الواعظ الطيب الذى على نياته يظن أنه من الذكاء بحيث يستطيع خداع المسلمين عما يقوله القرآن. فهل هذا يصح يا نيافة الواعظ المبجَّل؟ ولنفترض أن عيسى هو نفسه قول الحق، فما الذى يترتب على ذلك مما يريد واعظنا الطيب الذى على نياته أن يرتبه له؟ لا شىء، فنحن كلما استشهدنا بنص قرآنى ردّدْنا عبارة "قال الله تعالى"، بما يعنى أن الآية أو الآيات القرآنية المستشهد بها هى "قول الله"، لكن هذا لا يجعل قول الله ذاك هو الله ذاته، مثلما أننا نحن البشر خلق الله، لكن هذا لا يجعلنا نحن الله. إن إضافة الشىء هنا إلى الله لا يجعل ذلك الشىء هو الله نفسه كما هو واضح وضوح الشمس! فقول الله ليس هو الله، وخلق الله ليس هو الله! بل نحن هنا أمام طرفٍ فاعلٍ وطرفٍ مفعولٍ لا أمام طرفٍ واحدٍ وذاته، ولا أدرى أى شيطان قد سوَّل لذلك الواعظ أن يهرف بما لا يستقيم فى العقل ولا فى اللغة!
كذلك فإن قول واعظنا المبجل إن "القرآن يخبرنا أن الله ذاته علَّم المسيح قبل تجسده الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ- آل عمران 48" هو أيضا قول غير صحيح، إذ ليس فى القرآن هنا ولا فى أى مكان آخر منه أى كلام عن التجسد لتناقضه الأبلق مع دعوته التوحيدية السمحة المستقيمة. ولنرجع إلى سورة "آل عمران" التى نقل منها الواعظ ما نقل لنقرأ النص فى سياقه كاملا: "إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)". والآن هل يستطيع عاقل أن يجد فى تلك الآيات أى كلام أو حتى مجرد إشارة إلى التجسد، أو أى شىء يمكن أن يفهم منه، ولو على سبيل التوهم من بعيد، أن الله قد علم عيسى التوراة والإنجيل وهو لا يزال فى بطن أمه؟ ترى هل فى بطون الأمهات كتاتيب ورياض أطفال ومدارس وجامعات؟ ليس فى النص أى شىء يستدل به على أن ذلك التعليم تم قبل ولادة عيسى عليه السلام، بل النص واضح الدلالة على أن وجاهته وتكليمه الناس فى المهد وفى الكهولة وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإرساله إلى بنى إسرائيل، كل ذلك سوف يتم بعد ولادته. ولنلاحظ، فيما يخص تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، أنه معطوف على تكليمه الناس فى المهد وفى الكهولة، وتكليمه الناس فى المهد وكهلا لم يتم إلا بعد نزوله بطن أمه، كما أن الفعل هنا هو نفسه هناك، ألا وهو الفعل المضارع بما لا يمكن أن يقال معه إن لكل من الأمرين زمنا خاصا يختلف عن زمن وقوع الآخر، كما أن المضارع لا يدل على الزمان الماضى فى مثل هذا السياق أبدا. وهذا كله مما يستحيل معه أن يكون تعليم الله لعيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل قد تم وهو لا يزال فى عالم الرحم ولم ينزل إلى الدنيا! ثم كيف يتم تعليم قبل أن يوجد المتعلم؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه. لا بد أن يوجد المتعلم أولا ليكون ثَمّ تعليمٌ ثانيا. هذه بديهية لا يغتفر تجاهلها! لكن متى كان القوم يراعون البديهيات أو يحترمون المنطقيات؟
وبالنسبة إلى ما ذكره الواعظ فى المقارنة بين الدينين: دين محمد ودين عيسى، وما جاء به هذان العظيمان، نقول إننا لا نختلف معه كثيرا فيما قاله من أن "وحي محمد أتى بكتاب: القرآن والشريعة، أما خلاصة الوحي للمسيح فهي ذاته لأن إنجيله ليس شريعة بل إعلان حياته وأقواله ووصف شخصيته". ذلك أن الإسلام شريعة وليس مجرد عبادة أو مجموعة من الأخلاق، وهذه الشريعة تغطى كل جوانب الحياة وأنشطة الحضارة البشرية كما هو معلوم، أما دين عيسى فلا يعدو بعض الوعظيات المغرقة فى المثالية والتى لا تصلح لأى بناء اجتماعى أو حضارى على الإطلاق. ومن هنا نفهم تأكيد السيد المسيح بأن مملكته ليست من هذا العالم، فهى عبارة صادقة، إذ إن ما نسبه إليه مؤلفو الأناجيل من مواعظ أخلاقية هى كلمات لا تسمن ولا تغنى من جوع، كما أن التصرفات المضافة له هناك من شأنها أن تقوض المجتمعات التى تحاول أن ترتكن إليها: فمثلا كيف يقوم مجتمع أو حضارة على نبذ العمل والمال تماما طبقا لما كان عيسى يأمر به أتباعه؟ أو كيف يقوم مجتمع أو حضارة على أساس التسليم للمجرمين لا بما يريدون فقط بل بأزيد مما كانوا يحلمون بحيث إذا هاجمك لص مثلا وأراد غَصْبك رداءك فعليك أن تتنازل له عن الإزار أيضا... إلى آخر ما نعرفه عن موعظة الجبل وما يشبهها من الكلام المنمَّق الجميل فى الأناجيل الذى لا يؤكّل عيشا. وبالمناسبة فالإزار هو قطعة الملابس التى تغطى الجزء الأسفل من الجسم، ومن هنا يرانى القارئ أقول دائما إن عليه فى هذه الحالة أن يمشى "بلبوصا"! ومعنى هذا أن من يهاجم رجلا يتمشى على شاطئ النيل بصحبة امرأته وابنته وخطف منه البنت "وطلع يجرى" أن ينادى عليه ويعطيه امرأته أيضا، ثم يخلع هدومه ويتسلق سور النيل ويلقى بنفسه فى اليم فبغرق ويستريح. وأخيرا فلسنا نحب أن يفوتنا التنبيه إلى قول الواعظ، وهو يتخبط فى كلامه عن المسيح من فقرة إلى أخرى، بل من سطر إلى سطر أحيانا، إن "المسيح هو وحي الله بالذات"، وهو ما يفيد أنه عليه السلام ليس هو الله. ذلك أن وحى الله شىء، والله شىء آخر. أم هناك من يُقِلّ عقله ويمارى فى هذا؟ وعلى كل حال فالحمد لله الذى لا يحمد على مكروه ولا محبوب سواه أن اختزل الواعظ الكريم السيد المسيح بجلالة قدره إلى مجرد وحى!
وعلى كل حال فليس عيسى هو وحده الذى كان "يقول"، بل هذا أمر عام عند الأنبياء الآخرين، إذ كانوا هم أيضا "يقولون". وهذه بعض شواهد: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (الأنعام/ 74)، "فَلَمَّا رَأَى (أى إبراهيم) الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (الأنعام/ 78- 82)، "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قَالَ الْمَلا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ* أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ* وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ* أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ* فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ* وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (الأعراف/ 59- 74)، "وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الأعراف/ 104- 105)، "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف/ 128- 129).
أما بالنسبة للرسول محمد فإلى القارئ الآيات القرآنية التالية: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" (آل عمران/124- 125)، "وَلَئِنْ قُلْتَ (يا محمد) إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ" (هود/ 7)، "قَالَ (أى النبى محمد) رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنبياء/ 4)، إلى جانب آيات أخرى يأمر فيها الله سبحانه نبيه محمدا أن يقول لقومه كذا وكذا، وهى آيات كثيرة جدا. وهذا فى القرآن، والأناجيل إنما تشبه سيرة النبى، ومن ثم فكلام عيسى بن مريم فيها لا يناظر ما جاء منسوبا للنبى محمد فى القرآن، بل يناظر كلامه عليه السلام فى السيرة وفى الأحاديث. ومعروف أن الأغلبية الساحقة من أحاديثه صلى الله عليه وسلم تبدأ بعبارة "قال رسول الله"، وكلها فى العقيدة والتشريع والتوجيه الأخلاقى والسلوكى. ولو قمنا بعمل مقارنة بين عدد الأحاديث والخطب النبوية ونظائرها عند السيد المسيح عليه السلام لرجحت كفة النبى محمد بلا أدنى جدال. وإذا أردنا عبارة "أقول لكم" التى وردت فى كلام السيد المسيح فها هى ذى بعض الشواهد على ذلك: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكرالدجال فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه. لقد أنذر نوح قومه،ولكنيأقول لكمفيه قولا لم يقله نبي لقومه..."، "ضربت امرأة ضَرّتها بحجر وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيبطنها غُرّة، وجعل عقلها على عصبتها. فقالوا: أَنَغْرَم من لا شرب ولا أكل ولا استهلّ، فمثلذلك يُطَلّ. فقال: أسجع كسجع الأعراب؟ هو ماأقول لكم"، "إن الله يأجركم على تلاوته (أى القرآن) بكل حرف عشر حسنات. أما إني لاأقول لكم:"ألم" حرف، ولكن أَلِفْ حرف، ولام حرف، وميمحرف: ثلاثون حسنة"، "إياكم والبِغْضَة، فإنها هي الحالقة. لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". كما أن قول السيد المسيح فى الأناجيل: "الحق أقول" قد ورد على لسان الخضر فى حديث من أحاديث "الزَّهر النَّضْر" رواه ابن حجر العسقلانى، ونص العبارة كاملة: "نعم،الحقَّ أقول:لقد سألتَني بأمر عظيم. أمَا إنيلا أخيّبك. بوجه ربي بِعْنِي". وهناك حديث يشهد فيه النبى لعمر على النحو التالى: "إن الله جعلالحق علىلسان عمر وقلبه". وفى حديث آخر نسمع أبا ذر الغفارى رضى الله عنه يقول عن الرسول عليه السلام: "وأوصاني أنأقول الحق، وإن كان مرا"، وهى كعبارة "الحق أقول"، إلا أنها جَرَتْ على التركيب الأصلى من سَبْق الفعل للمفعول به.
ثم إن بولس قد استخدم هو أيضا هذه العبارة: "وَالآنَ أَقُولُ لَكُمْ: تَنَحَّوْا عَنْ هؤُلاَءِ النَّاسِ وَاتْرُكُوهُمْ!" (أعمال الرسل/ 5/ 38)، "هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا!" (رسالة بولس إلى أهل غلاطية/ 5/ 2، وهو كلام خطير كما يرى القراء، إذ لو كان عيسى إلها فكيف يجرؤ بولس، مهما كانت الأسباب، على القول بأنه لن ينفع عباده بشىء؟)، "وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ. عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ" (رسالة بولس إلى أهل غلاطية/ 19- 21). بل لقد ردد قول المسيح بنصه: "اَلْحَقَّ أَقُولُ فِي الْمَسِيحِ وَلاَ أَكْذِبُ، مُعَلِّمًا لِلأُمَمِ فِي الإِيمَانِ وَالْحَقِّ" (رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس/ 2/ 7)، فهل نقول إنه هو أيضا إله أو ابن للإله؟ كما أن المسيح قد استعمل بدوره عبارة "قال الرب" التى ينكر الواعظ الطيب الذى على نياته أن يكون قد قالها: "وَقَالَ لَهُمْ (أى المسيح) أَيْضًا مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ، قِائِلاً:«كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَانًا. وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي!. وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَانًا، فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِمًا فَتَقْمَعَنِي!». وَقَالَ الرَّبُّ:«اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ، الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَارًا وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ َقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعًا! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟»" (لوقا/ 18/ 1- 8). فماذا إذن؟ إن المسألة، كما هو واضح، لا تستحق كل هذه الطنطنة!
المفضلات