منذ أن أطلق الرئيس الشاذلي بن جديد اعترافاته المثيرة، في ملتقى قادة القاعدة الشرقية بمدينة الطارف، والتي تمحورت بشكل أساسي حول ظروف انعقاد مؤتمر الصومام وتحويله من منطقة حمام بني صالح، وحديثه المتشعب حول قصة إعدام العقيد شعباني ومعارضته تنفيذ حكم الإعدام فيه، خرجت أصوات أخرى ترد عن الشاذلي وتعتبر هذه الخرجة الغريبة غير منسجمة أبدا مع مواقع الرجل في التنظيم والقيادة، إلى الحد الذي دفع بالعقيد عمار بن عودة في اعترافاته لـ ''الشروق'' إلى القول بأن الشاذلي ''اعتمد في خرجته بالطارف على مصادر خاطئة ومضللة''..

*
وما دامت قصة إعدام العقيد محمد شعباني قد أخذت نصيبا من الجدل والنقاش فتعددت الروايات والمواقف حولها، قررت ''الشروق اليومي'' فتح هذا الملف الشائك والمعقد، في محاولة منها لملامسة بعض الحقيقة التاريخية عمرها اليوم ٤٤ سنة. وكم كانت الرغبة ملحة في إقناع عدد من الذين عايشوا الحدث سواء من رجالات العقيد شعباني أو من أولئك الذين اتخذوا منه موقف الرفض والاعتراض، لكن الغالبية تحفظت دون مبرر مقنع إلا مواصلة الصمت والسكوت..
*
*
شقيق العقيد في حوار مثير لـ ''الشروق''
*
بن بلة و بومدين يتحملان مسؤولية إعدام شعباني
*
يرى شقيق العقيد محمد شعباني بأن خرجة الرئيس الشاذلي بن جديد في الطارف واعترافه الصريح بمسؤولية الرئيس بن بلة في إعدام العقيد شعباني ومحاولة تبرئته للعقيد هواري بومدين تدل على أن الرجل لم يطلع بشكل مباشر على أوراق القضية، وإنما أخذ المعلومات بشكل خام من تصريحات الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي ما فتىء يجهر ببراءته من دم شعباني ومسندا كل أوراق القضية إلى الرئيس بن بلة لوحده.
*
أوضح السيد عبد الرحمان شعباني، شقيق العقيد محمد شعباني، في شهادته لـ ''الشروق اليومي'' بأن ''تصريحات بومدين للكاتب لطفي الخولي وجدت من يصدقها ويروج لها، مثلما فعل الأستاذ محمد سعدي، رئيس الجبهة الوطنية البومدينية، دون أن يستدل بوثيقة قانونية أو تاريخية واحدة تؤكد هذه الزعم البومديني''.
*
والسؤال المطروح بالأمس واليوم أيضا، وبإلحاح، حسب محدثنا، هو: ''لماذا التزم أعضاء المكتب السياسي الصمت إزاء المساس بسيادة هذه الهيئة؟ مع التذكير أن الحصانة ترفع عن العضو من طرف مؤتمر الحزب''، قبل أن يضيف ''ولهذا فإن محاولة الشاذلي بن جديد إبعاد المسؤولية المباشرة عن بومدين لا تستقيم، ومضامين النصوص التنظيمية التي صدرت في تلك الفترة والتي تم العثور عليها في أرشيف الثورة تؤكد ذلك، ولعل من أهمها:
*
١ - المرسوم الرئاسي المؤرخ في ٢ جويلية ٤٦٩١ المتعلق بإنهاء مهام عضو هيئة الأركان العامة للجيش الوطني الشعبي العقيد محمد شعباني، والذي جاء في حيثياته بأن هذا المرسوم الذي أصدره الرئيس أحمد بن بلة جاء بناء على تقرير نائب الرئيس وزير الدفاع الوطني، الذي هو هواري بومدين، أي بمعنى أن وزير الدفاع هو الذي أعد التقرير وهو أيضا المطالب بتنفيذ محتوى هذا المرسوم، كما جاء في المادة الثانية منه؟
*
٢ - المرسوم الرئاسي الثاني المؤرخ في نفس اليوم (٢ جويلية ٤٦٩١) المتعلق بتجريد العقيد شعباني من رتبته العسكرية وفصله من الجيش بناء على تقرير من وزير الدفاع أيضا. والسؤال المطروح هو ما الذي احتواه بالضبط تقرير وزير الدفاع الوطني الذي على ضوئه أصدر المرسومين؟
*
٣ - القرار المؤرخ في ٣ أوت ٤٦٩١ المتعلق بتعيين أعضاء المحكمة، حيث تم اختيار أعضائها جميعا من طرف وزير الدفاع الوطني هواري بومدين باستثناء محمود زرطال رئيس المحكمة. وهم على التوالي: العقيد أحمد بن شريف والرائد سعيد عبيد والرائد الشاذلي بن جديد والرائد عبد الرحمان بن سالم، بالإضافة إلى ممثل الحق العام أحمد دراية، والذي كان محكوما عليه بالسجن من طرف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأطلق سراحه بتدخل شخصي من العقيد هواري بومدين، والذي تم تعيينه في نفس اليوم بقرار صادر عن نفس الجهة.
*
وانطلاقا من كل ما سبق يعود شقيق العقيد شعباني إلى التأكيد على ''الدور البارز لوزير الدفاع الوطني في هذه العملية، فهو لم يكلف فقط بإصدار القرارت المتعلقة بتنظيم المحكمة العسكرية، بل قام أيضا بخرق الإجراءات القانونية، والتي كشفها الرئيس الشاذلي بن جديد دون قصد، عندما أكد بأن العقيد أحمد بن شريف لم يكن ضمن هيئة المحكمة العرفية المشكلة لهذا الغرض، الأمر الذي اعتبره رجال القانون خرقا صريحا للمادة ٢ فقرة ٢ من الأمر ١١٢-١٦ المؤرخ في ٨٢ جويلية ٤٦٩١ المتعلق بإنشاء المحكمة العرفية، والذي ينص على أن ''تتشكل المحكمة العرفية من رئيس يتم اختياره من طرف وزير العدل، و٤ قضاة مساعدين من ضباط الجيش الوطني الشعبي معينين من طرف وزير الدفاع الوطني، وومثل الحق العام (وكيل الجمهورية) معين من طرف وزير الدفاع أيضا''.
*
الملاحظ من خلال هذه النصوص القانونية التي تم العثور عليها في رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع الوطني، يقول محدثنا، أن عدم احترام المادة ٢ من الأمر المذكور يعد عيبا في الإجراءات يمنع تطبيقها لعدم اكتمال تشكيلها، وذلك لغياب العقيد أحمد بن شريف، بشهادة الرئيس الشاذلي، وبالرغم من هذا فقد وقع بن شريف على الحكم؟
*
*
بومدين كلف العقيد بن شريف بتطويق القاعة
*
بحسب المعلومات القليلة المتوفرة لدى ''الشروق اليومي'' فإن العقيد أحمد بن شريف، الذي يفترض حضوره جلسة المحاكمة، كان قد كلف من طرف هواري بومدين بمحاصرة القاعة التي احتضنتها، وتحويل المتهم شعباني إلى مكان تنفيذ الإعدام الذي هيأه وطوقه بقوات الدرك الوطني لعدة ساعات، وحتى قبيل بداية المحاكمة مثلما أكد عليه الشاذلي بن جديد في اعترافاته المثيرة.
*
وفي هذا يذهب شقيق العقيد شعباني إلى أن ''الداعين إلى اعتبار الرئيس الراحل هواري بومدين عنصرا أساسيا في قضية الإعدام إنما يستندون في ذلك على إصدار الأمر ١٦-١١٢ المؤرخ في ٨٢ أوت ٤٦٩١ والذي ينص صراحة في المادة الثالثة منه على أن ممثل الحق العام وبناء على تكليف من وزير الدفاع، يقدم قرارا إلى المحكمة يحتوي على تكييف الوقائع وبيان القوانين الواجب تطبيقها، وكذا إجراءات التحقيق غير قابلة للطعن''.
*
وتنص المادة ٤ من نفس الأمر على أن المحكمة العرفية تحدد إجراءاتها بنفسها. تفصل المحكمة بعد يومين من إخطارها. المحاكمة مغلقة ودون مرافعة.
*
أما المادة ٥ فتنص على أن الحكم الصادر عن المحكمة غير قابل للطعن والاستئناف، وينفذ فورا.
*
وبالإضافة إلى هذا يأتي رفض الرئيس أحمد بن بلة لإصدار العفو بالرغم مناشدة هيئة المحكمة. في الوقت الذي يصدر فيه قرارا بالعفو على قاتل محمد خميستي وزير الخارجية.
*
*
شعباني تكلم عن تسرب عملاء لفرنسا داخل جيش الحدود
*
أسرار البرقية المشفرة التي أرسلها العقيد إلى الحكومة المؤقتة
*
يعود المعارضون لقرار الرئيس أحمد بن بلة وأوامر وزير الدفاع العقيد هواري بومدين إلى تاريخ ٩١ أفريل ٢٦٩١، حيث بعث العقيد شعباني ببرقية مشفرة ومرقمة برقم ٣٨٤,١٤٥ إلى الحكومة المؤقتة التي تلقتها بتاريخ ٤٢ أفريل ٢٦٩١ جاء فيها ما يلي: ''ابتداء من وقف إطلاق النار، عناصر مسؤولة تقول إنها مفوضة من طرف الحكومة المؤقتة تقوم بعزل مسؤولين مناضلين ساهموا في الثورة التحريرية وتعويضهم بآخرين كانوا أعداء الشعب، هذا ما يقال في بعض المدن ببعض الولايات. ألفت انتباهكم إلى خطورة هذه التصرفات التي أثارت الغضب الشعبي. إذا استمر هذا نخشى أن نخسر ثقة الشعب، وبالتالي مناصرته في استفتاء تقرير المصير''.
*
كما تكلم العقيد شعباني في الخطاب الذي ألقاه بمدينة بوسعادة بصراحة على تسرب عملاء لفرنسا داخل جيش الحدود، وحذر منه، الأمر الذي استاءت له قيادة الجيش. وبعد استتباب الأمر وأصبحت الولاية السادسة ناحية عسكرية رابعة بقيادة العقيد محمد شعباني طلب هذا الأخير من هواري بومدين تنحية الرائد شابو آنذاك من منصبه الإداري حتى لا يطلع على أسرار وزارة الدفاع الوطني والمراسلات بين الوزارة والنواحي العسكرية، زيادة على ذلك فقد اقترح شعباني على بن بلة أن تكون قيادة الأركان جماعية دورية تتغير كل ٣ سنوات، على أن يكون أول قائد للأركان هو أعلاهم وأقدمهم رتبة، تفاديا لوقوع انقلابات عسكرية كتلك التي كانت سائدة في إفريقيا.
*
هذا الاقتراح أثار غضب بومدين وقتها والذي أتى على ذكره في حوار صحفي، مبديا استغرابه لفكرة الجيش الذي يخضع لقيادة جماعية.
*
وقد ظهر جليا الصراع بين بومدين وشعباني في المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير الوطني في ٦١ أفريل ٤٦٩١، حيث قدم شعباني تقريرا مفصلا مطالبا تطهير الجيش من الدخلاء. وتدخل هواري بومدين بعد شعباني مباشرة وردد عبارته الشهيرة ''من الطاهر بن الطاهر الذي يريد تطهير الجيش'' وبرر اختياره بأنه يفضل الاعتماد على جزائريين عوض الإتيان بمتعاونين تقنيين من الخارج.
*
ولم يتأخر هواري بومدين في الرد العملي على فكرة العقيد محمد شعباني وقام بإعادة هيكلة النواحي العسكرية، وتعيين قادة جدد. كما تم أيضا تغيير مقر القيادة العسكرية الرابعة من بسكرة إلى ورڤلة، وتعيين الرائد علي ملاح قائدا لها وذلك بقرار صادر في ٤ جوان ٤٦٩١ خلفا للعقيد محمد شعباني، الذي تم تعيينه عضوا في المكتب السياسي وقيادة الأركان، وهو القرار الذي رفضه محمد شعباني جملة وتفصيلا، مما دفع به إلى التمرد، وهو ما أعطى المبرر لأحمد بن بلة وهواري بومدين لاعتقاله ومحاكمته وإصدار حكم بالإعدام والإسراع أيضا في تنفيذه.
*
*
محمد شعباني: العقيد العروبي المثقف
*
من معهد ابن باديس إلى حبل الإعدام
*
اسمه الحقيقي الطاهر شعباني من مواليد ٤٠ سبتمبر ٤٣٩١ بأوماش بسكرة، تعلم في مسقط رأسه في زاوية البلدة التي كان والده يدير شؤونها، انتقل إلى مدينة بسكرة لمواصلة تعليمه، ثم انتقل سنة ٠٥٩١ إلى قسنطينة وانضم إلى معهد عبد الحميد بن باديس، وبالمعهد تعرف على كثير من المناضلين من خلال علاقاته مع الطلبة ومطالعته جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين حيث أدرك ضرورة العمل المسلح. مع اندلاع الثورة كان من الأوائل الذين دشنوا العمليات الأولى، وأصبح كاتبا مساعدا لسي الحواس في منطقة الصحراء، ترقى إلى رتبة ملازم، وفي أفريل ٨٥٩١ أصبح ضابط أول سياسي، وسنة ٩٥٩١ عين على رأس المنطقة الثالثة من الولاية السادسة. بعد استشهاد العقيد سي الحواس خلفه على رأس الولاية السادسة. وكان له دور في توسيع العمليات العسكرية في الجنوب الكبير خاصة بعد اكتشاف البترول وسعي فرنسا إلى سياسة فصل الصحراء. توفي العقيد شعباني بعد أن حوكم ونفذ فيه حكم الإعدام يوم ٣٠ سبتمبر ٤٦٩١. و قد اشتهر بكونه كان أصغر عقيد في العالم و باستماتته في الدفاع عن العروبة و الإسلام و بثقافته الواسعة.

المصدر : الشروق اليومي 24 12 2008