http://www.bahzani.net/B/k/ab3.htm
القسم الثالث
ويعتقد هنري لايارد H.Layard بان تاريخ الإيزدية يظهر في المصادر السريانية منذ القرن الثالث الميلادي وبالتحديد منذ عام 292م، وهو تاريخ قريب في رأيه من تاريخ وفاة ماني Mani عام 276م135، والظاهر انه يعتبرهم فرقة مانوية، وهو رأي لا نميل إليه، فالإيزدية أقدم من المانوية بكثير، كما سنرى في الفقرات اللاحقة...
كان لانتشار الديانة المسيحية في كوردستان منذ القرون الميلادية الأولى، اثر مشجع على اختيار بعض الكورد الداسنيين (الإيزديين) المسيحية ديانة لهم، ثم تبوؤهم فيها مراكز دينية مهمة، حاملين معهم اسم موطنهم (داسن)، بعد أن كان الاسم علماً على ديانتهم فقط، كالمطران يوحنا الداسني الذي كان مطرانا على نصيبين في القرن السابع الميلادي، ويعرف في بعض المصادر السريانية بيوحنا الابرص136.
وفي القرن التاسع الميلادي يشير القس توما المرجي الشيرواني في كتابه (كتاب الرؤساء) الذي ألفه في حدود عام 850م إلى الربان مار أبراهام الذي أرسل للتبشير في جبال داسن137. وفي القرن العاشر الميلادي حينما يزور ابن حوقل قرية المحمدية (مهمديك)، يذكر إنها قرية في بلد (بلاد) داسن138. وفي القرن الثاني عشر الميلادي يذكرهم ياقوت الحموي باسم (الداسنية) كطائفة من طوائف الأكراد الساكنة في شمال الموصل وشرق دجلة139. وفي كتاب (مزده ها روز) (المنسوب إلى الشيخ حسن الداسني ـ حسن ابن عدي الثاني المتوفى عام 744هـ/ 1246م، يرد اسم داسن متزامنا مع اسم ميديا140. ويفهم من هذا إن اسم (داسن) يغور عميقا إلى زمن الميديين. ولا املك أنا دليلا تاريخيا على ذلك، سوى أن أقول بان المؤرخ الإغريقي هيرودوتس Herodotus أورد في تواريخه أسماء (ستة) من القبائل الميدية هي: بوسي Bousi-oi، بودي Boudi-oi، بارتاكن Partaken-oi، ستراوخات Stroukhat-es، آريزانت Arizant-oi، وماغ ـ موغ Mag-oi 141. وان قبيلتين على الأقل من هذه القبائل الستة هما بودي وستروخات، باقيتان بين القبائل الإيزدية الكوردية حتى اليوم. فبالنسبة لقبيلة بودي Boudi-oi الميدية، أفادني الزميل الدكتور (زوراب الويان بودي) الأستاذ في جامعة بودابست، وهو من أكراد جورجيا، بان عشيرة بودي الكوردية الإيزدية تسكن منطقة وان، قارص و اردهان... وان بطونا منها هاجرت أثناء الحرب العالمية الأولى إلى جورجيا، وهي تعرف ببودكي، بادكي، بوفكي... أيضا، ينتمي هو والشاعر الكوردي (طاهري برو) من جورجيا إلى العشيرة نفسها. ويحدد دياكونوف I.m.Diakonov مواطن قبيلة بوديان ـ بودي، بأنها كانت تسكن الأجزاء الغربية من الإمبراطورية الميدية، وهي نفس مواطنها الحالية142. أما قبيلة ستراوخات Stroukhat-es الميدية أيضا. فيذهب الباحث الإيراني (جواد كوهلان) بان اسمها خف وتطور بمرور الزمن إلى (تازيك tajîk) هكذا: ستراوخات ـ تراوخيك ـ تاوخيك ـ تازيك ـ ثم تازي أخيرا، العشيرة الكوردية التي تسكن بطونها المسلمة اليوم في منطقتي ديرسم وفارتو...143 وبطونها الإيزدية في ناحيتي باشيك وبهزان قرب جبل مقلوب شرق الموصل. وفي رأي المستشرق النمساوي فون هامر Von hammer إن الكورد الإيزدية هم من أحفاد المارديين ـ الماديين (الميديين) لسببين: لكونهم لا يزالون يعبدون (اهريمن) أولاً، وهذا يفسر لنا عراقتهم وامتدادهم غائرين إلى زمن الميديين. وثانيا لأنهم كانوا في الماضي يمتلكون قلعة ماردين وهي قلعة ميدية في الأصل، وهم أي الكورد الإيزدية، لا يزالون يستوطنون حولها وفي أطرافها.. بعد أن فقدوها144. ورأي هامر hammer أصيل لا يستهان به في هذا المجال، رغم حقنا في تعليق بسيط عليه، هو إن الإيزدية لا يعبدون (اهريمن) حقيقة، بل يعبدون (إيزي) وهو الله، الذي ورد كثيرا في نصوصهم الدينية مثل:
سؤلتان (ئيزى) بخو بادشايه
هه زار وئيَك ناف ل خو نايه
نافىَ مه زن هه ر خودايه145
وترجمته:
السلطان (إيزي) هو الملك بذاته
تسمى بألف اسم واسم
اسمه الأعظم هو (الله)
وان هذه التهمة، تهمة عبادة (اهريمن) الصقها بهم زرادشت لأول مرة، حين وصفهم جزافا بـ (دائيفا يسنا) التي تطورت إلى (داسن) فيما بعد، كما سنرى في الفقرات اللاحقة.
لنعود من جديد إلى داسن والداسنية في التاريخ، بعد أن ذهبنا بعيدا في العلاقة بين الداسنيين ـ الإيزديين والميديين. إذ يذكرهم أي الإيزدية، ابن فضل الله العمري في (مساك الأبصار..) في القرن الرابع عشر الميلادي باسم الداسنية أيضا ويقول عنهم، إنها طائفة كثيرة العدد، تحولت في عهد اميرها بدر بن كيابك إلى مواقع امنع وأكثر تحصنا، يعيش حوالي ألف فرد منها (ربما أسرة) في أطراف الموصل وأميرهم علاء الدين كودك، وخمس مائة فرد (ربما أسرة) في منطقة عقرة وأميرهم موسى بن بهاء الدين146. وفي القرن الرابع عشر أيضا يذكرهم القلقشندي في صبح الأعشى.. باسم الراسينة ـ الراسنية وهو تصحيف بلا شك من الداسنية، معيدا نفس معلومات العمري عنهم147. ويذكرهم (البدليسي) في القرن السادس عشر الميلادي بنفس الاسم الطاسنية ـ الداسنية148، كما يذكرهم في القرن السابع عشر الميلادي خسرو بن منوجهر الاردلاني في تاريخ بني اردلان باسم الداسنية والداشنية أيضا، ويعدد الخالدية (الخالتية) من قبائلهم149. ويكتب المنشئ البغدادي في رحلته التي قام بها في بداية القرن التاسع عشر عام 1820م، بان سكان قرية (حسين كفتي) على الزاب الصغير قرب أربيل هم داسنية وهم الكورد اليزيدية الذين يعتقدون بـ (ش) اعتقادا تاما150. كما يذكرهم المؤرخان عبد القادر الباباني والكوردستانية ماهشرف خانم في القرن التاسع عشر باسم الأكراد الداسنية ايضا151. بل إن كتباً ومؤلفات الفت عنهم بهذا الاسم مثل: قصة الديانة الداسنية ـ أي قصة الديانة الإيزدية ـ للقس إسحاق البرطلي المطبوع في روما عام 1900م باللغتين السريانية والايطالية، و(رسالة في الداسنية) وهي رسالة مخطوطة في الديانة الإيزدية أيضا لمؤلف مجهول توجد نسخة منها في مكتبة المرحوم عباس العزاوي152. ولا يعرف بالضبط إن كان الإيزدية هم اللذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية، أم أطلقها عليهم أعداؤهم... المهم إن اللفظة تشير تاريخيا إليهم، عليه لامناص لنا في هذه الدراسة من الخوض في أصل لفظة داسن أو الداسنية.. التي تدل تاريخيا على الإيزدية منذ عهد تلاميذ السيد المسيح، بشهادة المؤرخ الكنسي اوسابيوس الكايزري Eusebius von Caesarea.... يعتقد العلامة توفيق وهبي153 بان لفظة داسن صيغة متطورة من دائيفايسنا Daevayasna التي تعني عبادة الله، اله خير، دائيفايسنا ـ دايسنا ـ داسنا داسن. وتأتي صيغة داسنا ـ داسنائي في كتاب مخطوط بالآرامية للمار يوخنا ذكره المؤرخ أنور المائي في الأكراد في بهدينان154، كما أوردها الباحث هاري.ج. لوك H.Ch.Lucke في كتابه الموصل وكهنتها Mosul and its Minorites وفق دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960م155. كما وردت اللفظة في الانوسوكلوبيديا الاسلامية بصيغة دافاسن Davasin أيضاً156.
فلفظة دائيفا Daeva كانت تعطي لدى أغلبية الأقوام الآرية القديمة معنى الله، اله الخير. إذ لازلت Daeva و Deva في الهندية، Deus في اللاتينية، Theos في الإغريقية، Dieu في الفرنسية، Dev و Dadv في البهلوية، Devas في الليتوانية، Dad و Daddy (الأب الخالق) في انكليزية... تعطي نفس المعنى157. أما يسنا Yasna فهي في الصلاة والعبادة158. إن دائيفا Daeva وديفا Deva وديف Dev وديو Dew كانت قبل ظهور الزرادشتية تعني الله ـ الإله الخالق، لكن زرادشت أراد أن يشق له طريقا خاصا، فاخذ يشك في الآلهة دائيفا ـ ديفا، وأطلق اللفظة على كل ضالٍ وعفريت و(ش).. فغدت دائيفايسنا في العصر الزرادشتي تعني عبادة (ش) مقابل مزديسنا أي عبادة الرحمن159.... يُتبع
الهوامش:
135ـ Islam ansiklopedisi, cilt-13, s, 416.
136ـ أبونا ـ الأب البير، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ج2 ص80 ـ 81.
137ـ المرجي ـ الأسقف توما كتاب الرؤساء، ترجمة: البير ابونا، الموصل ـ 1966م، ص37.
138ـ ابن حوقل ـ محمد بن علي النصيبي، صورة الأرض، ترجمة: د.جعفر شعار، طهران 1345ش، ص64 (بالفارسية).
139ـ الحموي ـ ياقوت، معجم البلدان، مجلد:2جـ4 ص284.
140ـ الداسني ـ حسن بن عدي الثاني، كتاب مزدها روز، ترجمة: انور المائي، دهوك ـ 2001م، ص90، 98.
141ـ هيرودوتس، تواريخ هيرودوتس اليوناني أبو التاريخ (تواريخ هيرودوتس يوناني بدر تاريخ)، ترجمة: وحيد مازندراني، طهران ـ 1380ش، ص61 (بالفارسية).
142ـ دياكونوف ـ ايغور ميخائيلوفيج، تاريخ ماد، ترجمة: كريمكشاورز، طهران ـ 1371ش، ص147 (بالفارسية).
143ـ كوهلان ـ جواد، بيان موطن زرادشت والتاريخ الأسطوري لإيران كزارش زادكا زردشت وتاريخ أساطيري إيران)، طهران ـ 1375ش، ص336 (بالفارسية).
144ـ فون هامر ـ يوزفبوركشتال، تاريخ الإمبراطورية العثمانية (تاريخ إمبراطوري عثماني) ترجمة: ميرزا زكي علي ابادي، طهران ـ 1347ش، ج2ص 876، 1536 (بالفارسية).
145ـ سليمان ـ خدر، جندي ـ خليل، الإيزدية على ضوء بعض نصوص ديانتهم (ئيزدياتي لبه ر روشنايا هنده ك تيكستيَد ئاينىَ ئيَزديان)، بغداد ـ 1979م، ص18(بالكوردية).
146ـ فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ج3 ص134.
147ـ الزويري ـ محجوب احمد، الجغرافية التاريخية في إيران في القرن التاسع الهجري ـ مقتبس من كتاب القلقشندي صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (جغرافياي تاريخي إيران در قرن نهم هجري بركرفته از كتاب قلقشندي صبح الأعشى في صناعة الانشا)، طهران ـ 1380ش، ص90.
148ـ البدليسي ـ شرف خان، الشرفنامه، ص26، 16 (بالفارسية).
149ـ الاردلاني ـ خسرو بن محمد بن منوجهر، تاريخ بني اردلان، تحقيق: أي. أي فاسيليفا. موسكو ـ 1984م، ص57 ـ 58 (بالفارسية) .
150ـ المنشئ البغدادي ـ محمد بن احمد الحسيني، رحلة المنشئ البغدادي، ترجمة: عباس العزواي، بغداد 1948م، ص77 ـ 78.
151ـ الكوردستانية ـ ماهشرف خانم، تاريخ اردلان (ميزوى ئه ردلان) ترجمة: حسن جاف و شكور مصطفى، بغداد ـ 1989م ص55/56، كذلك: الباباني ـ عبد القادر بن رستم، سير الأكراد ـ في تاريخ كوردستان وجغرافيتها (سير الأكراد ـ در تاريخ وجغرافياي كوردستان) تحقيق: محمد رؤوف توكلي، طهران ـ 1377ش، 179 ـ 180 (بالفارسية).
152ـ العزاوي ـ عباس، تاريخ اليزيدية واصل عقيدتهم، بغداد ـ 1935م، ص96.
153ـ وهبي ـ توفيق، مقال اصل اللغة الكوردية (بنج وبناواني زمانى كوردى) مجلة كَلاويَش العدد المزدوج: 3ـ4، لسنة: 1941م، ص46 (بالكوردية).
154ـ المائي ـ أنور، الأكراد في بهدينان، الموصل ـ 1960م، ص9.
155ـ حبيب ـ د.كاظم، الايزدية ديانة تقاوم نوائب الزمان، لندن ـ 2003م، ص9.
156ـ Islam ansiklopedisi, Istanbui-1986, cilt-13, s, 415
157ـ جنيدي ـ فريدون، الزروائية ـ تقييم الزمان في إيران القديمة (سنجش زمان در إيران باستان)، طهران ـ 1358ش، ص144 (بالفارسية) كذلك: خداداديان ـ د.اردشير، الآريون والماديون (آريها وماديها)، طهران ـ 1379ش، (بالفارسية).
158ـ اوشيدري ـ د.جهانكير، موسوعة عبادة الرب (دانيشنامةء مزديسنا)، طهران ـ 1371ش، ص511 (بالفارسية).
159ـ المصدر السابق، موسوعة عبادة الرب، ص274، كذلك: أبو القاسمي ـ د.محسن، ريشة شناسي (الاتيمولوجيا)، طهران ـ 1374ش، ص35 (بالفارسية)
المفضلات