العراقيون يبحثون عمّن لديه "جينات" صدام..
بقلم:نبيل أبوجعفر

عندما يطالع الإنسان آخر أخبار العراق المتعلقة بشخص رئيسه الشهيد صدام تقفز إلى الذاكرة توقّعات ألدّ أعدائه قبل عقدين من الزمان حول ما سيؤول إليه وضع هذا البلد العربي في حال غيابه، وهو ما حصل ويحصل الآن وستتواصل تداعياته في المستقبل الآتي. أما هذه التوقعات فلم تأتِ من منطلق الحقد الذي كانوا يكنّونه له فحسب، ولا من منطلق استهدافه وقد بلغ ذروته، بل بعد دراسة شخصّيته واهتمامهم بهذه "الحالة" التي أسمونها "كريزما" صدام وطغيان شخصيته.

أخبار العراق لا تخلو يوماً من ذكر اسمه، بعد أن أصبح بين يدي العلي القدير، إما تمجيداً له وتذكّراً لأيامه ومقارنتها باليوم وظلام ليله، أو حقداً عليه من معسكر الذين استهدفوه شخصياً مثلما استهدفوا العراق أرضاً وشعباً منذ ما قبل 2 آب 1990، تاريخ "إحتلال" الكويت، عندما لم يستطع لا هُوَ ولا رفاقه تجرّع تطاول حكام هذه الإمارة وطريقة تعاملهم. وما تلفّظوا به أثناء لقاء الوساطة الذي عُقد في جدّة ولم يؤد الى حل للإشكال القائم يومها، عندما صدر عن الوفد الكويتي كلام أكبر منه ومن حجم الإمارة التي يمثّلها واعتُبرصدى لصوت السيّد الأميركي. فكان القرار الذي لم يكن منه مفر رغم كل التنظيرات التي طفحت بها الصحف والفضائيات ، بعد أن استنفرت إدارة بوش الأب العالم ضد بلد من بلدان العالم الثالث لكي تُدمّره، ولم يكن هذا الإستكلاب البوشّي ضد الرئيس صدام لا وقتها ولا حتى الآن مفهوماً من قبل العديد من المحللّين الأميركان، وإن كان سبب الحرب معروفاً، في المرة الأولى والثانية أيضاً.



مستجدّات تذكره وتُذكّر به

من بين آخر الأخبار المتعلقة بالرئيس الشهيد، يستوقف المتابع ثلاثة أحداث لها مغزاها ورابطها العميق بين الماضي والحاضر.

· أولها حدث منذ فترة قريبة عندما قام المالكي "رئيس وزراء العراق المحتل" بزيارة منطقة الأعظمية ببغداد ومعه رهط من العساكر والآليات للإستعراض السلطوي، فخرج أهلها الى الشوارع بتظاهرات تهتف وسط العساكر والحراسات: "هلهولة للبعث الصامد"، و.. "بالروح بالدم نفديك يا صدام".

هذا الكلام ينقل وصفاً موجزاً لما حصل دون زيادة ولا عواطف. ومن يتصّور عكس ذلك بإمكانه رؤية وسماع الشريط المسجّل لهذه التظاهرة على موقع "you tube" تحت عنوان "المالكي يزور الأعظمية والناس يهتفون لصدام حسين"، وهو بالمناسبة ليس موقعاً عراقياً ولا عربياً، كما هو معروف.

· بعد هذا الحدث مباشرة جاءت زيارة نائب الرئيس الاميركي جورج بايدن الى بغداد والتقائه بجمع من جنود الاحتلال على مائدة غذاء بمناسبة "عيد الاستقلال الاميركي" في 4 تموز/ يوليو الحالي. وكلنا سمعنا عن "خطابه" الذي خرج فيه عن أدنى حدود الأخلاق والدبلوماسية بالنسبة لشخص في موقعه، فتكلم بلهجة السفهاء وأولاد الشوارع. ويكفي للدلالة على ذلك قول صحيفة معاريف الإسرائيلية أنه "أهان صدام حسين بألفاظ نابية قائلاً.. كذا.. وكذا، حتى أن الجنود المتواجدين أُصيبوا بالدهشة الشديدة من تعابيره ، نظراً لعدم توقعهم أن يتخلّى نائب الرئيس عن دبلوماسيته التي يفرضها عليه منصبه".

ونظراً لأن ما قاله بادين من بذاءة لا يتفوّه به حتى السُوَقة ولا يوصف بأقل من ".. وكل إناءٍ بما فيه ينضح"، فإن الجانب الآخر الأخطر فيه أنه يتناقض بشكل مفجع مع الصورة التي يحاول الرئيس أوباما ترسيخها لدى العالم الذي أساء إليه جورج بوش وإدارته المشابهة لـِ "إناء بايدن". فكيف يمكن التوفيق بين قلّة خلق بايدن وما يطرحه رئيسه على الملأ، وعلى أي أرضية يمكن أن يتعايش النقيضان تحت سقف البيت الأبيض. هذا إذا كانا متناقضين فعلاً؟!

· بالتزامن مع "إناء بايدن" شرب حكام المنطقة الخضراء حليب السباع وأصدروا قراراً غريباً من نوعه في التاريخ البشري والإنساني، قضى بمنع زيارة ضريح "رئيس النظام السابق" منعاً باتاً، ويُشتّم في رائحة ما ورد من أسباب موجبة لصدور هذا القرار أن ذلك يعود إلى تكاثر عدد الوفود التي تؤم ضريح الشهيد، وإلى أن الأمر لم يعد يقتصر على الأفراد والسيارات الخاصة والعائلات... وما شابه، بل أصبح يشمل الباصات التي تقل تلاميذ وتلميذات المدارس لزيارة الضريح. وهذا ما رصدته أجهزة الأميركان وسلطتها في المنطقة الخضراء، وقد سجلت ارتفاع نسبة الزوّار بشكل لافت في ذكرى ميلاد صدام يوم 28 نيسان/ إبريل الماضي.



ماذا قالوا قبل 20 عاماً؟

نعود لشخصية الرئيس الراحل ولعشرين سنة خلت، لكي نقرأ ما يجري اليوم، ونُفّسر من هذا المنظار سبب تعلّق الناس به بعد استشهاده رغم أن التعلّق "جريمة" في نظر الإحتلال وأتباعه. وهنا نسجل التالي:

- في اليوم التالي لـِ "احتلال الكويت" كان بوش الأب يعقد اجتماعاً استثنائياً لمجلس الأمن الوطني، وهو يشتاط غضباً من مجرد ذكر صدام، وتُرفرف جفون عينيه مع تمايل سحنته ذات اليمين والشمال، تماماً كإبنه من بعده . وتفيدنا المعلومات التي نُشرت حول هذا الاجتماع أنه خُصّص في الأساس لدراسة الوضع على الأرض وما يجب عمله، ولكنه سرعان ما تحوّل إلى التركيز على دراسة شخصيّة صدام وكيف يمكن التعامل معه. وانهمك الحضور باستعراض الخيارات، ووسط تبادل الآراء طرح رئيس هيئة الأركان المشتركة – وقتها – كولن باول تساؤلاً عن مدى انعكاس شخصية صدام وحده على الحدث، وما دور شخصيته في ذلك، وإذا كان هو كل شيء وتمّ التخلّص منه، هل هناك في العراق من يمكن أن يكون البديل له؟

كان ردّ برنت سكوكرفت/ مستشار الأمن القومي في ذلك الحين، أن العراق عندها قد يتفتّت. وثمة من قال ضمن ما قيل في معمعة تبادل الآراء أنه يستحيل أن يوجد من يستطيع جمع أطياف العراق وتركيبته كما يفعل صدام. وعليه تم الإقرار – كما تقول معلومات الأميركان وكتابات متخصصيهم – بوجوب شن الحرب لضرب العراق دون التوغل في أراضيه.

وقتها لم يكن أفق جنون الأب قد وصل إلى حدّ جنون الإبن عندما احتل المقعد البيضاوي مثله في وقت لاحق. كان هدف الأب مرحلياً وله حدود وقد توقّف عندها، ظنّاً منه أن العراق بقيادته وشعبه سيخضع بالكامل تحت ضربات الحصار القاسي بعد ذلك، فينال بذلك ما يُريد دون أن يغوص في رماله. وهنا يتميّز الإبن الذي اختار طريق جنون الأب وفَعَلَ ما لم يجرؤ على فعله، بأن قرّر الغوص، وتَصوّر أن العراقيين سيلتفّون من حول جنده وأنه سوف يسجّل نصراً أبدياً. ولم يخطر بباله حتماً موضوع المقاومة والتحضير المسبق لها، ولا كل المسلسل الدامي الذي واجهته قواته على أرض العراق بعد ذلك، مما أدّى إلى مسارعة أوباما لسحبها من المدن تحت ستار الوفاء بالتزام الاتفاق الأمني، والمؤكّد أنه ينتظر يوم سحبها بالكامل تحت الستار نفسه.



فجر جديد.. على الطريق

وهكذا تكون النتيجة التي وصل إليها الأميركان في العراق، وهي ما بات أكبر باحثيهم ومحللّيهم وحتى عساكرهم يعترفون بها، أنه لا الاجتماعات ولا دراسة الشخصية ومعرفة "سرّها نجحت في النهاية، ولا جنون الإبن واحتلاله والثأر من الشخصية التي كانت تثير أعصابهم قد نجحت على المدى الاستراتيجي لحياة الشعوب وتقرير مصيرها. فرغم ما جرى في حرب "تحرير الكويت" وما تبعها من سنوات الحصار الظالم ثم الإحتلال وما ارتكبه من مجازر وموبقات تُحاكي هولاكو وتزايد عليه، فإن الحاصل على الأرض الآن يُنبىء بولادة فجرٍ جديد.

لقد بدأ العراقيون ومن بينهم من لم يكن مع النظام يفتقدون أهمية وجود القائد الذي يتمتع بـ "كريزما صدام" وشخصيته وحضوره الطاغي، لا طغيانه كما يحلو للأميركان وأتباعهم أن يرددّوا. وفي هذا السياق جاء ما قرأناه مؤخراً على لسان المحللة الأميركية ترودي روبين ، وقد تركز حول دراسة ماذا سيحصل في المستقبل الآتي بعد هذه الأيام ومخاضها؟

ففي بحث طويل استشهدت فيه بآراء الناس إلى جانب اتصالاتها الشخصية مع مسؤولين سياسيين وعسكريين أميركيين وصلت الى نتيجة أنه من المحال بقاء وضع العراق على حاله، خصوصاً بعد خروج القوات الاميركية من المدن، وعدم "جهوزية" قوات الجيش ولا الشرطة المحلّية لأخذ دوره والنزول الى الشوارع والمواجهة بشكل فاعل، فضلاً عن فقرها للمعلومات الاستخبارية وقصر باعها في ملاحقة "الإرهابيين والصداميين" ورجال المقاومة الآخرين.



الفرق بين حرب وحرب

أما الأهم مما قالته روبين فهو ما قاله المسؤول السياسي في وزارة الخارجية الأميركية ريتشارد هيس قبل عشرين عاماً من اليوم في معرض مشاركته بالنقاش مع بوش وسائر الحاضرين داخل اجتماع مجلس الأمن الوطني – وكان وقتها مستشاراً للخارجية -، ثم أعاد التذكير به قبل ايام.

يومها قال هيس بالنص أمام الحاضرين: انه من "غير الممكن أن يتمتع شخص بالولاء الشخصي الذي يحظى به صدام – إلى درجة أنه وصفه بالعبادة الشخصية – حتى يستطيع مثله أن يجمع اطياف النسيج العراقي". وبدلاً من أن يفتح هذا الرأي آذان بوش الأب وعقله زاد في حنقه واستهدافه له.

ويعلّق هيس على ما فعله بوش الإبن بعد ذلك فيقول أن سياسة الولايات المتحدة تجاه قضية ما لا يجب أن توضع بعد أن يجري الحسم بهذه القضية، بل لا بدّ من دراستها ولا بدّ من انشاء ثقافة الحوار والمحاسبة وليس كما فعل بوش الإبن.

في ضوء هذه القناعة ميّز هيس الفارق بين ما أسماه حرب الضرورة وحرب الإختيار، وارتآى أن ما حصل في العام 1991 كان حرب ضرورة كحلّ أخير دفاعاً عن الولايات المتحدة. أما الحرب الأخيرة التي شُنّت على العراق فكانت حرب اختيار (بمعنى أن هناك بديل جاهز لها)، وقد تمت وطأة أحداث 11 سبتمبر التي أصبح الرئيس أسيراً لها، وهي وليدة صراعات لا تُفضي إلى نتيجة فيما تستنزف الوطن سياسياً وتضعه موقف صعب.

ولهذا يرى هيس أن الفارق بين حرب العراق الأولى والثانية، أي حرب الضرورة وحرب الإختيار مثل الفرق بين الليل والنهار. فالأولى كانت تستهدف تحقيق مصالح لا وجود لخيار سياسي لها. – حسب وجهة نظره – أما الثانية فلا تتوفر فيها هذه المصلحة وثمة خيار سياسي بديل لشنّها. وكشف هيس أنه في ضوء قراءته لهذا الوضع واتضاح الفارق في الحربين بالنسبة له، قام بإعداد مذكرة قبيل شن الحرب الإحتلالية الأخيرة تتضمن عدة حلول بديلة للحرب على العراق تستند إلى تقوية الرقابة والعقوبات وتضييق الحصار.. وما شابه، ثم "شن حملة دبلوماسية للإطاحة بصدام". وأشار في نهاية حديثه أنه أراد بذلك إشعار الرئيس بأن لديه مخرجاً من هذه الأزمة. لكن الوقت كان قد فات – كما قال – وما زال هيس حتى اليوم يحاول قراءة الأسباب العميقة لإصرار بوش على إختيار خوض هذه الحرب التي أدت الى الاحتلال وكل البلاوي التي استتبعته.

النتيجة التي لا يمكن التشكيك فيها الآن، أن العراقيين باتوا يبحثون عمّن فيه أكبر نسبة من "جينات" صدام والكاريزما التي كان يتميز بها، إلى جانب قوة الشخصية والترفع عن الصغائر والمقاييس الطائفية والعرقية والمذهبية.

هل استوعب الأميركان معنى ذلك، وهل استوعب العرب أيضاً.. أم لا؟!