بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .
هذه وقفة جميلة مع أية كريمة من أيات الله عز وجل العظام , التي لو أنزلت على جبل عظيم شامخ لرأيته خاشعا متصدعا ذليلا من خشية الله عز وجل .
كنت أقرأ منذ فترة في كتاب جميل لمؤلف عظيم , وهذا الكتاب هو كتاب الظلال للشهيد الأستاذ سيد قطب رحمه الله , ووقفت وقفة جميلة مع شهيدنا الحبيب في تفسيرة لأية كريمة في سورة الفرقان , وأحببت أن أنقل لكم هذه الكلمات المضيئة في زمن يملئه الظلام , لعلها بإذن الله عز وجل تكون مشعل نور يبدد هذا الظلام و يضئ الدرب لكل صاحب دعوة حقة في طريق الحق الوعرة الشائكة , ولعلها تكون بإذن الله بلسما شافيا على كل قلب تملكه شيْ من اليأس على زمانه الضال .
والأن سأترككم مع شهيدنا الحبيب ومع تلك الرياض النضرة .
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} سورة الفرقان الأية ( 31 )
ولله الحكمة البالغة . فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها , ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها . وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة , وهو الذي يمحص القائمين عليها ويطرد الزائفين منهم , فلا يبقي بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة , التي لا تبتغي مغانم قريبة . ولا تريد إلا الدعوة خالصة , تبتغي بها وجه الله تعالى .
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة , تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار , ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون , ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون , لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة , ولأختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل , ووقعت البلبلة والفتنة . ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا , ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا , فلا يكافح ويناضل ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون , الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع , وأعراض الحياة الدنيا . بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا وأشدهم إيمانا وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها واجتازوا امتحانها وبلاءها أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء .
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات ; حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات وهم ثابتون على دعوتهم ماضون في طريقهم قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع ! .
من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين ; وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق وحملة الدعوة يكافحون المجرمين فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق والنهاية مقدرة من قبل ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله إنها الهداية إلى الحق والانتهاء إلى النصر " وكفى بربك هاديا ونصيرا " .
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية فساد في القلوب وفساد في النظم وفساد في الأوضاع ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون الذين ينشئون الفساد من ناحية ويستغلونه من ناحية والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء والذين يجدون فيه سندا للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن وكذلك المجرمون فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق يستميتون في كفاحها وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية لأنها تسير مع خط الحياة وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله " وكفى بربك هاديا ونصيرا "
في ظلال القرآن - سيد قطب
المجلد الخامس
صفحة ( 2561 _ 2562 )
رحمك الله ياشهيدنا الحبيب فكلماتك التي نحسبها بإذن الله خرجت من قلب مؤمن صادق واثق بموعود الله , لا بد وأن تلج كل قلب مؤمن صادق واثق بموعود الله , وبما عند الله عز وجل , وبما أعدة سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الموحدين في جنانه العالية , فتهون كل هذه الحياة أمامهم , ويهون كل شيْ أمامهم , ولكن هذا الدين العظيم لا ولن يهون في قلوبهم , ونعاهد الله عز وجل أولا ونعاهدك ياشهيدنا الحبيب أننا على الدرب ماضون وعلى ربنا متوكلون , ولن يضيرنا بقوة الله عز وجل كثرة المتخاذلون المتساقطون , وأن دمك الطاهر بإذن الله سيكون نورا لنا يضئ لنا الدرب من بعدك , ونارا تلظى على من أعدمك وقتلك في الدنيا والأخرة بإذن الله عز وجل , وأخيرا أسئل الله الكريم المنان أن يمن علينا وينعم علينا بجميل نعمه بأن يجمعنا وإياك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في فردوسه الأعلى مع أحبائنا أجمعين , اللهم أمين اللهم أمين اللهم أمين , فسلام على روحك في الخالدين .
كتبه
محبكم
سعيد باجابر
لا تنسونا من صالح دعائكم
المفضلات