الحمير ..


على توالي الأعوام تغلغلت في مجتمع النَوَرْ عادة امتطاء ( الحمير) في دمائهم , وأصبحت شعاراً لهم حتى أن جدودهم
كما تروي عجائز النَوَرْ أصبحوا يخشون امتطاء الجياد والخيول
ونتيجة لهذه البدعة , فُرِض على نساء القبيلة السير على الأقدام
طيلة حياتهن , فهن لا يمتطين أية راحلة كانت , بل إن ذلك من
حق الذكور على الإطلاق , فالرجل يمتطي الدابة و المرأة تسير
بركابه , مهما طالت المسافة دون تذمر .
ويعزو ( النَّوَرْ ) أصولهم إلى ( بني مُرَّة) ويبتدئ تاريخ تشردهم
عقب المعركة التي قُتِل فيها ( جسّاس) زعيم قبائل ( بني مُرَّة) .
فمنذ ذلك الوقت حرَّم عليهم ( الزير سالم ) – على حد زعمهم –
ركوب الخيل على الإطلاق , فاضطر جدودهم القدامى إلى ركوب
الحمير بدلاً من الجياد والخيل , ثم سامهم ( الزير سالم ) الخسف
والهوان حتى اضطروا إلى الهجرة من ديارهم , والضرب في
فجاج الأرض سعياً وراء الرزق , والمراعي الخصبة .
ويروى أن شاعر الأردن ( عرار – مصطفى وهبي التل ) وكان قد
عمل بالمحاماة لبعض الوقت , اشتهر بدفاعه عن ( النَّوَرْ) في
المحاكم تطوعاً .
وحدث أن سرق أحد ( النَّوَر) حماراً , وكان ثمن الدواب آنذاك
مرتفعاً , وكان المتهم قد اعترف بالسرقة , لكن عراراً التمس
تخفيف العقوبة , بداعي أن المتهم أعاد الحمار المسروق إلى صاحبه , وأنه من الأموال الخسيسة , , فقاطعه القاضي , بقوله:
" إن ثمن الحمار اليوم يساوي عشرين جنيهاً " , فكانت مفاجأة
لعرار , إلاّ أنه تداركها بذكائه ,وقال للقاضي : " لقد شرّف الله
دابّة النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل منها البُراق , ولم يُشرف
حمار العُزيرْ بل أبقاه حماراً , اسماً وجسماً , مصداقاً للآية الكريمة
( إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير ) , وارتفاع ثمن الحمير لظروف خاصة , لا يُخْرجُ الحمار لمسروق عن كونه حماراً بأخس
الثمن , فضحك النظارة لهذا الدفاع , ونزل القاضي عند رأي
( عرار ) وخفف العقوبة .
في مجتمعنا الريفي, للحمير أهمية استثنائية في حياة الفلاحين
وفي القديم هو وسيلة المواصلات للركوب ولحمل الأثقال والأمتعة
عليه , وله ولكل الحيوانات في البيت مكان خاص بهم يسمى ( البايكة) , والمكان الذي يخزن فيه التبن والعلف ( التَّبان) , و
يضع للحيوانات جميعا الطعام في حوض من الطين والحجارة
يعلو عن الأرض حوالي نصف متر يسمى ( الطِوالة ) ووعاء معدني أو جلدي يوضع به الماء ( جابية ) , وبعض الفلاحين
كانوا يستخدمون الحمير للحراثة عليها إما على حمار واحد أو
حمارين يوضع على رقبتهما ( نير ) واحد يربطهما سوية .
وما دامت الحمير قد شاركتنا حياتنا قد رأيت مزايا وصفات حميدة
للحمار , فهو لا يكفر بالله , ولا يجحد بلسانه الإله الذي خلق
له هذا اللسان , كما يفعل الإنسان , ولا ينافق ويتخذ له وجهين , و لايثير الحروب عل إخوانه في الحماريَّة , ولا يعرف جريمة القتل , ولا رذيلة الإنتحار , ولا تشغله شهوته عن واجبه الحماري
كما تشغل بني آدم , ولا يفكر في الأتان ( أنثى الحمار ) إلا مرة
واحدة في السنة , ليقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع
ولا ينحرف بغريزته عن طريقها , ف( يقترب... ) من حمار مثله
ويدع جميلات الأُتُن , ذوات الخد الأسيل , والذنَبِ الطويل , والساق النحيل , ... كما تنحرف غرائز بعض بني آدم . .. و لا
تتبرج إناثه التبرج المُغْري , ولا تعرف البغاء الطليق على ( البلاج) , ولا البغاء الفني في السينما والتلفزيون والمجلات
المصورة أو الأنترنت . ...
ولم يُشاهد أتاناً ترقص رقصاً خليعاً , ولم يسمعوا حماراً يغني
غناء حديثاً , مع سهولته عليه , ولكن يبدو أن فضائل الحمار تلك
ظهرت لتلك المطربة التي شبهت حبيبها بالحمار بقولها ( بحبك
ياحمار ) وهي أغنية لطيفة , كانت قد تسببت في طلاق كثير من
النساء وحتى يروى أن عروسا أحضرت معها كاسيتها وخبأته
كمفاجأة لعريسها ووضعته في آلة التسجيل , مما كان السبب في
طلاقها الفوري ورجوعها إلى بيت أبيها ,والحمار ما رأوه مع
ذلك إلا صابراً على ما قُدِّر عليه , راضياً بما قسم له , لايستغل
أيام الحرب , ليسرق شعير إخوانه الحمير .. ولا يغُش ..........
ولا يرتشي , ولا يخون , ولا يعرف المكر , ولا الحسد , ولا
يتظاهر بالدين ليصل إلى الدنيا , ولا يتخذ العمل في المصالح العامة سُلَّماً إلى المناصب , وهو يطيل التأمل , وهو لا يؤذي
أبناء جنسه بتدوين فلسفته ,ويأتي حين يُصَوِّتُ بسحجات و
صيحات لها في موسيقى الحمير جمالٌ , ولكنه لا يزعم أنه من
كبار الملحنين , ولكنه لايزعم أنه مجدد في البلاغة كما يزعم
بعض مشايخ بني آدم , لئلا يقال له : اخرس , فما تجديدك إلا
نهيق ..
وقد قيل في المثل السائر( وقف حمار الشيخ عند العقبة)
أنا بدوري أقف هنا لعلي أعود ثانية أتبحر في فلسفة الحمير
لعلي أصبح فيلسوف الحمير , وتطبق شهرتي شهرة ابن سينا
والفارابي , ,وأكون أول من وضع أصول هذا العلم وفلسفته .

- محمد فتحي المقدادنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


مراجع للموضوع
-------------------------
- عرار شاعر الأردن ( تأليف البدوي الملثم )
- مقالات في كلمات ( الشيخ علي الطنطاوي )

بصرى الشام 20-11-2009