سجن النساء
مقطع من رواية اليربوع
حسين فيلالي
طلبت مني زوجتي أن أعرض نفسي على طبيب نفساني، وادعت أني أتفوه بكلام غريب في الليل.
كانت تزعم أن كلمة واحدة مما أبوح به في الأحلام كفيلة بإرسالي إلى قوانتنامو،أوسجن سركاجي .
استحضرت صورة المجندة الأمريكية التي بثتها الفضائيات، وهي تعبث بوحشية بأعضاء أحد السجناء العراقيين بسجن أبي غريب ففزعت و تعوذت بالله من سجن النساء.
ألحت زوجتي على زيارة الطبيب، وادعت أني أعرضها، وأبناءها للخطر، فتشاجرت معها، وألمحت إلى أني سأترك البيت، إن لم تكف عن أوهامها.
فهمت من كلامي نية التهديد بالزواج عليها، فغضبت واحمر وجهها وبدت كثور مجروح في الكوريدا قالت:
- إنها لم تعد تطيق التستر على أحلامي،وأنها كلما حضرت مجلسا نسائيا، وسمعت الزوجات يخضن في أسرار أزواجهن، تشعر بالكلمات تكاد تنفلت من بين شفتيها،وتحس بلسانها يتمرد عليها،يخرج دون إرادتها من فمها، فتضطر للسعال، أو التظاهر بالزكام، فتغلق فاها بمنديلها، وتكتم أنفاسها، وتلجم لسانها وتغادر المجلس.
تذكرني حكاية زوجتي بدابة آكلة النمل، لا أذكر اسمها ولا أعرف فصيلتها، ذيلها أبيض، تدخل لسانها الطويل إلى جحر النمل فتلعقه لعقا.
زوجتي صارت أشبه بالدابة آكلة النمل، تدخل لسانها الطويل إلى جيبي، وتبتلع نقودي.
و مع مرور الزمن، بدأت أشعر فعلا أن زوجتي قد لا تستمر في كتمان السر طويلا، فصرت أغلق فاها ببعض الهدايا الثمينة، و أوصيها بكتمان السر الذي لا أعلمه، و أخشى افتضاحه.
عرفت جبني، فصارت تستغل خوفي من الحكومة، وتحرص على تنفيد وصية جدتها الهلالية، وتجتهد في إفقاري، فتختلق حكايات كثيرة عما أبوح به في الأحلام.
لجأت إلى السهر، وأصبحت مدمنا على الشاي والقهوة، ومتابعة برامج التلفزة الوطنية المقرفة.
فكرت في إقامة سهرات ليلية في بيتي للأصدقاء لكني تراجعت، إذ خشيت أن يخترق المخبرون صفوفي، على غرار ما يفعلون بالجمعيات، والنوادي، والأحزاب، ويدسون في مجلسي من يتجسس علي ويفشي سري.
بدأت أشعر بالإرهاق، والتعب، ومع ذلك، فضلت ألا أتمدد على السرير خشية أن يباغتني الحلم، فكرت في زيارة أحد الشيوخ بإحدى الفضائيات العربية ليرقيني ضد الحلم ثم تراجعت بعد أن لاحظت عجز ميزانيتي واكتفيت برقية نفسي.
نصحتني زوجتي هذه المرة بممارسة الرياضة وأقنعتني بذلك، ووجد كلامها هوى في نفسي، فأنا كما يقول أحد أصدقائي وجهي، كقفاي وهو كثيرا ما يقف عاجزا أمام تحديد اتجاهي، إن كنت مقبلا أو مدبرا..
أنا أبدو كهيكل عظمي مهمل في مشرحة، أو كمن يشكو من مرض خبيث أكل اللحم، و أوهن العظم، و رغم ذلك تنصحني زوجتي بإتباع حمية لتخفيف الوزن.
شكلي المشوه الذي لم يكن يغري حتى مومس متقاعدة كان يؤرقني،ويؤلمني أكثر تصرف بعض الحوامل من البلدة اللواتي كن يتطيرن من منظري ويكدمن على أطراف أثوابهن كلما مررت بهن ويتعمدن أن أسمع حديثهن:
- الموت لا يغيب إلا الرجال الزينة.
فكرت ذات مرة في السطو على بنك حكومي لإجراء عملية تجميل لكن أحد المسئولين المخلصين سبقني إلى ذلك و ابتلع المبلغ ورحل في وضح النهار وأقسم أنه سيعود بعد سنوات لشراء الوطن بمن فيه.
بدأت في ممارسة رياضة كمال الأجسام ثم توقفت فثقل وزني، و بدا جسمي مترهلا، ازدادت شهيتي للأكل، و كلما امتلأ بطني أشعر بالرغبة في النوم، فأقوم مسرعا، أضع على جسدي قطعا من الثلج وأتسمر أمام التلفاز.
الثلج يذوب، و الجسد يتشظى، و الشفتان تتقلصان والحلق يجف أتمدد على السرير، أرى نفسي في واد كجوف العير، قفر، حافي القدمين أمشى على الجمر ثم أوضع في دلو كبير، ويلقى بي في بئر نضب ماؤها.
أسرعت إلى الشيخ مبروك قال:
لا تقصص رؤياك على زوجتك ثم أضاف:
- أما السير على الجمر، فإنه دنيا تصيبها، وملك عظيم تظفر به، وأما البئر الجافة، فإنها امرأة بكر تنكحها.
تذكرت وصية الهلالية لابنتها بإفقار زوجها وتصرفات زوجتي معي فانفجرت بالضحك.
أدخل تفسير الشيخ مبروك السرور على نفسي، و أعاد التئام ذاتي رجعت إلى البيت مغتبطا كمن ظفر بنصر ميئوس منه، ورحت أحدث نفسي بما سمعته من الشيخ:
- دنيا تصيبها، وملك عظيم تظفر به، وامرأة بكر تنكحها. ارتميت على السرير، ورحت أقوم ببعض الحركات الصبيانية، أتمدد على ظهري، ثم على بطني أرفع رجلي إلى أعلى ثم أتدحرج من على السرير أحبو كطفل يكتشف حركته الذاتية لأول مرة، وكلمات الشيخ كأجراس النصر، تقرع، تقرع، تملأ ذبذباتها الجسد، فتردد صداها الروح، تبلغ النشوة مداها، أسلم الروح للجسد، يعربد الجسد، تتعب الروح، وتتوق إلى الانعتاق،والراحة.رأيت نفسي أسير في موكب رئاسي أحمل ابني على كتفي، و أذكر للناس خصال الرئيس الحميدة
و أنشدهم القصائد التي دبجتها في مدحه، و هم يصفقون، ولما برز الرئيس صاح ابني:
- أبي، أبي، إنه الرجل الذي كنت تلعنه، وتبصق على صورته كلما ظهر على التلفزيون.
و ضعت ابني على الأرض، وقلت:
- لمن هذا الابن الضال، وغبت في الزحام.
رأيت زوجتي تسير مع الموكب، وتلتفت إلي و تتناجى مع صويحباتها، خيل إلي أني سمعت إحداهن تقول:
المسكين، لو ينجو بنفسه قبل أن يشنق، أو يرسل إلى قوانتنامو أو سركاجي.
وصل الموكب إلى كثيب من الرمل، أمرنا الرئيس بخلع نعالنا
و أحذيتنا أحرقها، وصاح:
سأخوض بكم هذا اليم، أسترجع ما ضاع من فلسطين والعراق والأصوات ترتفع، عاش مولانا ،الموت لأعداء سيدنا ، سر بنا حيث شئت، و الله لو طلبت منا أن نلقي بأنفسنا في النار لفعلنا .
اغتبط الرئيس، تقدم، اعتلى كومة من الرمل، أخرج من جيبه منظارا وراح يستكشف المكان، ثم نادى أحد حراسه:
أنظر إلى تلك السفن القادمة نحونا، ثم أضاف:
ناولني سلاحي، ومر الجند ألا يتدخلوا حتى أعطيهم الإشارة.
قال الحارس:
سيدي، إنها قطعان من الإبل، وليست سفنا.
اسكت يا غبي، أنت لا تفهم في هذه الأمور، إنهم يتخفون في سفن تشبه الإبل.
هجم الرئيس على البعران، مسك ناقة من ذيلها، ضربته بفرسنها على صدره، فسقط ملقى على قفاه.
أسرع الحارس، ساعده على النهوض،نهره الرئيس:
ابتعد يا غبي عن ساحة المعركة.
عاود الرئيس الكرة، توسط البعران، وراح يصرخ: توقفوا، أنتم محاصرون، توقفوا، سلموا أنفسكم.
جفلت البعران، أسقطته من جديد، وراحت ترفسه وتقضم رأسه وهو يصرخ،و يطلب النجدة، لكن الجمع فر، وتاه في الرمال.
المفضلات